الدستور
الزمن ليس عقارب ساعة تدور، ولا أوراقا تتساقط من التقويم. هو كائن ماكر يتجلى في وجوهنا، يغيّر أصواتنا، ويحني قاماتنا. وكلما مرّ جيل، ترك وراءه رائحة الحرب أو نكهة الرفاه أو صخب الشاشات، وكأن الأجيال قناديل متتابعة ينطفئ واحد ليضيء آخر، فلا يبقى الضوء ذاته، ولا الظلال ذاتها.
منذ قرن مضى، خرج إلى النور ما اصطلح على تسميته عالميا «الجيل الأعظم» وهم الذين شهدوا الحرب العالمية الأولى. كانوا ينامون على أصوات المدافع ويستيقظون على صدى الكساد الكبير. وجوههم شاحبة، لكن عروقهم امتلأت بالصبر، وحناجرهم مشدودة بالكفاح. ذلك الجيل لم يطلب الرفاهية، بل حمل همّ إعادة بناء ما تهدم، وغرس معنى الالتزام والصلابة في جذور العالم الحديث.
ثم جاء «الجيل الصامت»؛ أبناء الانضباط، وكاظمو الأحلام. وُلدوا في ظلال الحرب، حيث الكلمات أثقل من الرصاص، فاختاروا الصمت سبيلا للحياة. لم يصرخوا كثيراً، بل عاشوا في مسافة آمنة بين التقاليد والخوف، وكانوا صورة لعصر الحذر والاحتياط.
ومع انطفاء نيران الحرب، تدفقت الحياة في الشوارع، وولد «جيل طفرة المواليد». أبناء الوفرة الذين فتحت لهم الأسواق أبوابها، فارتفعت أحلامهم كناطحات السحاب. كان هذا الجيل القوة الاقتصادية التي غيّرت شكل المجتمعات، عاشوا رفاهية لم يعرفها آباؤهم، لكنهم دفعوا لاحقاً ثمن تسارع إيقاع الحياة.
وجاء بعدهم «جيل إكس»، أبناء الحدود الرمادية، الذين كبروا بين جدار برلين وطفرة شاشات التلفاز. جيل مستقل، مرن، لكنه قلق دائماً، يبحث عن هوية تتسرب من بين يديه. هم أبناء الحرب الباردة والتغيير الثقافي، جيل لم يتوقف عن طرح الأسئلة: من نحن؟ وإلى أين نمضي؟
ثم أطلّ علينا «جيل الألفية»، أبناء الإنترنت الأول، الذين غدت الشاشات لهم نوافذ بلا ستائر. هم أكثر وعياً بالعالم، لكنهم أقل صبراً في مواجهته. هم الجيل الذي يحمل حساً اجتماعياً عميقاً تجاه البيئة والمجتمع، لكنه أسرى للعالم الرقمي الذي يربطهم أكثر مما يحررهم.
بعده ظهر «الجيل زد»، جيل الهواتف الذكية والعوالم الافتراضية. لم يعرفوا حياة بلا إنترنت، فهم أبناء السرعة والتغيير اللحظي. ومع ذلك، كانوا أكثر جرأة على تقبل الاختلاف، وأكثر وعياً بحقوقهم وحقوق الآخرين. هم الذين صاغوا شعارات العدالة والمساواة بلغة هاشتاغات تهز أركان السياسة والاقتصاد.
أما اليوم فنعيش مع «جيل ألفا»، جيل الأطفال الذين يحركون الشاشات بأصابعهم قبل أن يتعلموا الكلام. هم الأكثر براعة في التعامل مع التكنولوجيا، لكنهم الأقل قدرة على التركيز أو التواصل العميق. يعيشون في عالم الذكاء الاصطناعي، عالم يعِدهم بإمكانات غير مسبوقة، لكنه يهددهم بالاغتراب عن أبسط أشكال العيش الإنساني: الإصغاء لنبض الآخر.
ومنذ الآن يتهيأ العالم لاستقبال «جيل بيتا». الجيل الذي لم يولد بعد في المخيال الجمعي، لكنه يطل من الأفق كسؤال مفتوح. أي إرث سيحمل؟ هل سيكون قادراً على مواجهة كوارث القرن الجديد، من تغيّر المناخ إلى تحديات الذكاء الاصطناعي؟ أم سيعيد صياغة قواعد الحياة بمنطق لم نتخيله؟