عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Dec-2025

تعليم عال بمعايير عالمية: رؤية للنهوض بالجامعات الأردنية*حسن الدعجة

 الغد

شهد التعليم العالي في الأردن خلال العقدين الماضيين تحولات إستراتيجية أعادت تشكيل بنيته ودوره ومكانته العلمية، محليا وإقليميا ودوليا. فلم يعد الاهتمام منصبا على التوسع الكمي فحسب عبر زيادة عدد الجامعات والطلبة، بل أصبح التركيز تدريجيًا يتجه نحو تحقيق نقلة نوعية في جودة التعليم والبحث العلمي، ما جعل الجامعات الأردنية تدخل مرحلة جديدة من التنافسية والفاعلية المؤسسية. فالأردن الذي بات يضم ما يقارب أربعين جامعة ومؤسسة للتعليم العالي، رسمية وخاصة، استطاع أن يوسّع قاعدة الالتحاق الجامعي، ويوفر فرصًا واسعة للتعليم، ويستقطب عشرات الآلاف من الطلبة العرب والأجانب؛ غير أن هذا الاتساع خلق تحديًا موازيًا يتمثل في ضرورة تطوير النوعية ورفع مستوى الأداء الأكاديمي.
 
 
وقد جاءت هذه الجهود النوعية في سياق وطني يشهد تحولًا كبيرًا في بنية الاقتصاد والمعرفة، حيث حقق الأردن خلال الأعوام 2023–2025 تقدمًا ملحوظًا في مؤشر المعرفة العالمي، ليصل في عام 2025 إلى المرتبة 73 من أصل 195 دولة، محافظًا على صعوده للعام الثالث على التوالي. ويعكس هذا الإنجاز تحسينات واضحة في التعليم قبل الجامعي، والتعليم العالي، والبحث العلمي، والابتكار، والبنية التكنولوجية، وهو نتاج تنفيذ خطط تحديثية شاملة ضمن رؤية التحديث الاقتصادي، فضلا عن تعزيز جاهزية الاقتصاد القائم على المعرفة.
أما على مستوى الجامعات، فقد شهدت المؤسسات الأكاديمية الأردنية في القطاعين العام والخاص تقدمًا ملموسًا في حضورها على خريطة التصنيفات العالمية، إذ دخل العديد منها قوائم QS 
وTimes Higher Education وشنغهاي، خصوصًا في مجالات الهندسة والطب وتكنولوجيا المعلومات والصيدلة والعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. ويبرز من بين هذه النجاحات ما حققته جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية بدخول تخصصي الطب وطب الأسنان ضمن النخبة العالمية في تصنيف شنغهاي واحتلالهما المركز الأول محليًا، وهو إنجاز يعكس قوة البحث العلمي في الجامعة، وتطور بنيتها التحتية، وكفاءة كوادرها الأكاديمية.
كما واصلت الجامعة الأردنية ترسيخ حضورها في تصنيف QS العالمي، مؤكدة مكانتها كمؤسسة بحثية رائدة ذات تأثير إقليمي ودولي. وتبرز أسماء لامعة في جامعات مثل الحسين بن طلال فقد تعزز هذا الأثر العلمي بوجود عدد من العلماء الأردنيين الذين صُنّفوا ضمن أعلى 2 % من الباحثين تأثيرًا على مستوى العالم وفق قواعد بيانات الاستشهادات البحثية الدولية، ومن بينهم نخبة من أساتذة جامعة الحسين بن طلال الذين برزوا في تخصصات الهندسة والطاقة والعلوم الأساسية والتربية  كما تضم جامعات أخرى مثل الجامعة الأردنية واليرموك والهاشمية ومؤتة وغيرها من الجامعات، ممن أسهموا في تطوير نماذج رياضية معقدة، وتقنيات معالجة المياه، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والدراسات البيئية، ما يعكس تطور البيئة الأكاديمية وقدرتها على إنتاج أبحاث ذات تأثير عملي مباشر.
وفي المسار ذاته، شهدت الجامعات الخاصة الأردنية تقدما ملحوظا في التصنيفات الدولية، ما يعكس التطور النوعي في برامجها الأكاديمية وارتفاع مستوى البحث العلمي فيها. فقد تمكنت جامعات مثل الأميرة سمية للتكنولوجيا والعلوم التطبيقية الخاصة وعمان الأهلية من تعزيز مواقعها في تصنيفات QS وTimes Higher Education ضمن مجالات التكنولوجيا والأعمال والعلوم الصحية، مدفوعة بالاستثمار في البنية التحتية الحديثة، وتحديث الخطط الدراسية، وتوسيع الشراكات الدولية، ورفع كفاءة أعضاء هيئة التدريس، فضلًا عن زيادة الأبحاث المنشورة عالميًا. وتؤكد هذه الإنجازات أن الجامعات الخاصة أصبحت شريكًا محوريًا في الارتقاء بمنظومة التعليم العالي الأردني وتعزيز تنافسيته إقليميًا وعالميًا.
أما في مجال العلوم الزراعية والموارد الطبيعية، فقد أسهمت الجامعات الأردنية في تطوير تقنيات جديدة لتحسين الإنتاج الزراعي، وتعزيز الأمن الغذائي، وفهم تأثيرات التغير المناخي، وتطوير محاصيل مقاومة للجفاف، وفي مجال إدارة المياه استطاعت الجامعات تقديم حلول عملية في بلد يعد من أفقر دول العالم مائيًا. وفي العلوم الإنسانية والاجتماعية، أنتج الباحثون دراسات نوعية في التربية، وعلم الاجتماع، والاقتصاد، واللغة، والتاريخ، ساهمت في تطوير سياسات تعليمية وإدارية، وعززت الوعي الثقافي والمجتمعي، وأثرت النقاشات العامة حول قضايا الهوية والتنمية.
وتُعد إضافة الجامعات الأردنية اليوم نتاجًا طبيعيًا للتفاعل بين التوسع الكمي والنمو النوعي؛ فمن جهة أتاح التوسع في عدد الجامعات والبرامج فرصًا تعليمية واسعة، ومن جهة أخرى عززت السياسات الوطنية للاعتماد وضبط الجودة ثقافة التميّز والارتقاء بالمستوى الأكاديمي. كما ساعد تدويل التعليم واستقطاب الطلبة الوافدين من أكثر من مئة دولة في خلق بيئة تعليمية متعددة الثقافات، وأسهم في تنشيط الاقتصاد المعرفي، وأكسب الجامعات الأردنية حضورًا على الصعيد الإقليمي.
ومع ذلك، تبقى الحاجة ملحّة لمزيد من التطوير على عدة مستويات، خاصة في ظل الضغوط المالية التي تواجهها بعض الجامعات الحكومية. فتعزيز الحاكمية الرشيدة يعد ضرورة لرفع جودة اتخاذ القرار، وضمان الشفافية والاستدامة المالية. كما أن الاستثمار في أعضاء هيئة التدريس، عبر برامج تدريبية متخصصة، ودعم الابتعاث، وتوفير حوافز للبحث والنشر العلمي الرصين، يمثل محورًا أساسيًا لتحسين المخرجات. ويضاف إلى ذلك الحاجة إلى تطوير البنى التحتية الرقمية والمختبرية، بما يواكب التحول الرقمي السريع عالميًا.
كما يتطلب الأمر مراجعة هيكلية التخصصات الأكاديمية، وتعزيز الارتباط بين البرامج الجامعية واحتياجات سوق العمل، وتوجيه الموارد نحو التخصصات النوعية التي تضيف قيمة حقيقية للاقتصاد والمجتمع. ومن الضروري كذلك بناء شراكات أعمق مع القطاعين العام والخاص لاستحداث برامج تطبيقية، وتوفير فرص تدريب وتشغيل، وخلق مصادر تمويل جديدة تخفف من المديونية وتعزز الاستدامة.
إن اعتماد هذه الرؤية المتوازنة القائمة على الجودة والفعالية المؤسسية، يمكن أن يمكّن الجامعات الأردنية من تعميق رسالتها العلمية، والارتقاء بدورها في التنمية الوطنية، وتعزيز حضور الأردن على الخريطة العلمية العالمية. فالتعليم العالي النوعي لم يعد خيارًا، بل ضرورة إستراتيجية لمستقبل أكثر ازدهارا وقدرة على مواجهة تحديات العصر.