عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Jan-2019

إحياء العصيان المدني

 الغد-جان-فيرنر مويلر

برينستون – مع صعود النزعة الشعبوية والأنظمة الاستبدادية في جميع أنحاء العالم، أصبح هناك جدل كبير حول “المقاومة”، خاصة في الولايات المتحدة. وهو مصطلح عام جدا يمكن أن يشير إلى الكثير من الأشياء، بدءاً من دعم مرشحي المعارضة إلى الأنشطة القاتلة التي مارسها أولئك الذين عملوا تحت الأرض للتخريب ضد نظام الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية. والجانب الغامض من هذا المصطلح مثير للاهتمام عندما يتعلق الأمر بجذب أكبر عدد ممكن من الناس، ولكنه قد يمنعك أيضا من التفكير بوضوح عندما يتعلق الأمر بإيجاد أفضل طريقة لتحقيق هدف ملموس.
كما هو واقع الحال الآن، هناك مصطلح أكثر دقة والذي نادراً ما يُشار إليه في الوقت الحاضر: العصيان المدني. ومن الناحية النظرية، يجب أن يكون هذا سلاحاً فعالاً ضد الشعبويين. لكنه يواجه، من الناحية العملية، تحديين هائلين. أولاً، هناك سوء فهم واسع النطاق لما يعنيه العصيان المدني في واقع الأمر. ثانياً، جعلت التغييرات في السياق الإعلامي من الصعب نقل رسالة العصيان المدني إلى جمهور واسع ومتنوع.
في أوائل السبعينيات، اقترح الفيلسوف الأميركي جون راولز التعريف الكلاسيكي للعصيان المدني. وببساطة، يمكن تعريف العصيان المدني بأنه أسلوب احتجاجي سلمي يلجأ إليه الناس لمواجهة السلطة المحلية أو الأجنبية في بلادهم بهدف تغيير القوانين التي يجمعون على أنها غير عادلة. وبالنسبة لراولز، ينبغي أن يكون الذين يقومون بمثل هذه الأفعال على استعداد لتحمل العواقب.
واليوم، حتى وإن كانت الاحتجاجات قانونية تماماً، فإنه غالباً ما يتم اعتبارها “غير مدنية” أو “مسببة للانقسام” بالنسبة لمجتمع مستقطب بالفعل. عندما تظاهر المواطنون ضد تعيين بريت كافانو كقاضٍ في المحكمة العليا الأميركية في جلسة الاستماع السابقة أمام مجلس الشيوخ، تم وصفهم بـ”الغوغائيين”. وقال الليبراليون إن حركة “حياة السود مهمة” هي حركة عدوانية للغاية. أما بالنسبة للمتظاهرين الذين تجمعوا وسط العاصمة المجرية بودابست للاحتجاج ضد حكومة رئيس الوزراء فيكتور أوربان التي تصبح أكثر استبداداً باطراد، فقد أطلق عليهم اسم “الفوضويون الليبراليون”. وفي كل حالة، يتم الخلط بين “المدنية” في العصيان المدني والكياسة، التي تشير إلى الأدب أو الاحترام العام.
ومن جانبه، أصر راولز على روح الولاء للقانون في التعامل مع أعمال العصيان المدني غير القانونية. وردد أفكار مارتن لوثر كينغ الابن، الذي قال إن الأشخاص الذين ينتهكون القانون باسم العصيان المدني “يعبرون في الواقع عن أعظم احترام للقانون”، حيث يؤكدون على ظلمهم الأساسي مع الحفاظ على إمكانية التعاون في المستقبل بين المواطنين الآخرين. ولذلك، كان مارتن لوثر كينغ يعتقد بأن “أي شخص ينتهك قانوناً ظالماً يجب أن يفعل ذلك بشكل علني وودي، (…) وأن يكون مستعداً لقبول العقوبة”.
لكن هذا الاحتجاج الودي لا يعني أن العصيان المدني يجب أن يكون خالياً من النزاعات. للتشبث برؤيا مثالية تاريخية لأحداث الخمسينات والستينات من القرن العشرين، قد يعتقد المرء أن حركة الحقوق المدنية قد نجحت ببساطة بالتماس المبادئ السياسية الأميركية للحرية والمساواة. وفي واقع الأمر، كان جزء من استراتيجية الحركة هو البحث عن مواجهة مع الشرطة والمتطرفين البيض. وقد ولّدت هذه الخلافات صوراً عن أعمال البيض الوحشية التي جعلت بعضهم على الأقل يعيدون النظر في دفاعهم غير المشروط عن “القانون والنظام” في عهد جيم كرو.
في دراسة حديثة للحركات الاحتجاجية التي امتدت لأكثر من قرن، أظهر عالما الاجتماع إيريكا تشينووث وماريا ج. ستيفان أن المواجهة الصعبة والخالية من العنف كانت على الأرجح أسوء من بدائل العنف لتحقيق أهدافها المعلنة. ووفقاً لبياناتهما، فإن المشاركة المستمرة لنحو 3.5 % فقط من السكان يمكن أن تكون كافية لتحقيق تغيير سياسي جوهري.
ومع ذلك، يشير تاريخ حركة الحقوق المدنية الأميركية إلى مشكلة جديدة في عصرنا. وقد اعتبر راولز، ومارتن لوثر كينغ الابن وغيرهما من المدافعين عن العصيان المدني أنه من المسلم به أن الرسالة -وهي نداء لمبادئ العدالة- ستصل إلى أغلبية المواطنين بصورة غير مشوهة. أما اليوم، فقد أصبحت المجالات العامة في العديد من البلدان منقسمة ومُغرضة لدرجة أن فكرة مارتن لوثر كينغ عن “الرأي الوطني” أصبحت غير منطقية.
وكما تشير دراسة حديثة لثلاثة باحثين من جامعة هارفارد، فقد ظهر نظام إعلامي يميني معزول للغاية في الولايات المتحدة؛ حيث يتم إعادة صياغة أي “خبر” على الفور ليتناسب مع هوية المواطنين اليمينيين. وفي الأنظمة شبه الاستبدادية، على سبيل المثال، مثل سياسات أوربان في المجر (التي ساعدته على مدار سنوات في إحكام قبضته على الاقتصاد والإعلام وحتى القضاء)، أصبحت وسائل الإعلام الآن خاضعة تماماً للجهات الفاعلة التابعة للحكومة. في ظل هذه الظروف، فإن معظم المناشدات لما يسميه راولز بـ”الشعور العام بالعدالة” سوف يتم تجنبها أو تحريفها أو إلغاؤها بشكل نهائي.
بناء على ذلك، لا ينبغي للممارسين المحتملين للعصيان المدني أن يسمحوا لأنفسهم بأن يقعوا في فخ الكياسة. عندما انتهك السياسيون المعارضون مؤخراً إجراءات البرلمان الهنغاري عن طريق منع الوصول إلى منصة المتحدثين ومقاطعة خطاب أوربان، تم اتهامهم بمحاولة الانقلاب. وفي واقع الأمر، حاولوا فقط تأكيد حقيقة أن البرلمان الوطني لم يعد هيئة تمثيلية عادية تعتمد قوانين شرعية.
ومع ذلك، سيتعين على المحتجين الطموحين أن يأخذوا بعين الاعتبار الطبيعة المنقسمة والملوثة بشكل متزايد للبيئة الاجتماعية العامة. في بعض الأحيان، سيعني ذلك إشراك المواطنين الآخرين مباشرة في الشوارع، والأسواق، أو حتى من خلال عملية فرز الأصوات. وفي حالات أخرى، سيعني هذا أنه من الضروري إجراء بث مباشر لأفعال العصيان المدني على أمل الكشف عن الأساليب الوحشية للمستبدين أمام الشعب من خلال شبكات التواصل الاجتماعي. وفي حالات أخرى، يعني هذا أننا بحاجة إلى تغيير هيكلي. على سبيل المثال، عودة “عقيدة العدالة” للمذيعين في الولايات المتحدة.
بطبيعة الحال، سيكون العصيان المدني أكثر فعالية في المشهد الإعلامي الأقل تشوهاً. لكنه لا يزال يمثل واحداً من أكثر أشكال “المقاومة” الديمقراطية فعالية.
 
*أستاذ السياسة في جامعة برينستون. آخر كتبه “ما هي الشعبوية؟”.
*خاص بـالغد، بالتعاون مع “بروجيكت سنديكيت”.