عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    18-Nov-2025

« أن تأتي متأخرًا «... لا تأتي * رنا حداد
الدستور -
 
تشيع في حياتنا اليومية مقولة « أن تأتي متأخرًا خيرٌ من ألا تأتي أبدًا» وكأنها حل سحري يصلح كل خطأ، ويبرر أي تأخير، ويعطي أي غياب فرصة جديدة بلا حساب. تبدو الجملة منطقية في سياقات معينة، مثل العمل أو الالتزامات أو المهام التي يمكن تعويضها بزيادة جهد أو بعض الوقت. لكن هذا المبدأ يتهاوى تمامًا عندما نحاول إسقاطه على العلاقات الإنسانية، حيث لا تُقاس الأمور بالوقت فقط، بل بالإحساس، وبالحضور، وبالاستجابة في اللحظة التي كان يجب أن تحدث فيها.
في العلاقات، هناك لحظات تمثل نقطة انعطاف، تمنح الكلمة أو الفعل قيمتهما الحقيقية. كلمة تُقال في وقتها قد تنقذ علاقة بأكملها، وموقف في لحظته قد يمنح ثقة لا تُقدّر. لكن حين تتأخر الكلمات وتتأخر الأفعال، تفقد معناها تلقائيًا، حتى لو جاء مضمونها صحيحًا. العلاقات لا تقبل «التأجيل»، لأنها تُبنى على التواجد الفعلي، لا على الندم اللاحق. اللحظة المناسبة ليست تفصيلًا عابرًا، بل جزء جوهري من معنى العلاقة نفسها.
لقد لعبت السينما دورًا كبيرًا في ترسيخ صورة زائفة عن أن الاعتذار المتأخر أو الاستيقاظ المفاجئ على قيمة الآخر يمكنه إنقاذ كل شيء. تقدم الأفلام لنا بطلًا يستدرك خطأه فجأة، فيركض تحت المطر نحو منزل الحبيبة، ويقف تحت شرفتها يطلق اعترافًا طويلاً يحرك المشاعر، ثم تهبط البطلة إليه، وتلين القلوب، وتعود المياه إلى مجاريها، وينتهي كل شيء بلقطة رومانسية. المشكلة أن هذه الصورة تعيد إنتاج وهم خطير: أن العودة المتأخرة بطولة، وأن الغياب يمكن مسحه بمشهد درامي، وأن اللحظات التي كُسرت فيها الروح ليست إلا تفاصيل قابلة للمحو بالاعتذار.
لكن الواقع لا يشبه السينما. لا توجد قلوب تظل معلّقة تنتظر الإدراك المتأخر. هناك كسر يحدث في الداخل، وقد لا يُصلّح مهما كانت النية صادقة. هناك لحظات تُغلق فيها الأبواب، لأنها تأخرت أكثر مما ينبغي. في الحياة، ليست كل الأشياء قابلة للاسترجاع، ولا كل المشاعر قابلة للإحياء. هناك من ينسحب لأنه لم يُرَ في الوقت المناسب، وهناك من يرحل لأن صمته لم يُفهم إلا بعد أن صار الكلام بلا جدوى.
العلاقات منظومة دقيقة لا تعيش على الوعود المتأخرة. الحب وحده لا يكفي إذا غاب التقدير في لحظته، والاعتذار يفقد قيمته حين يأتي بعد أن فقد الطرف الآخر القدرة على الاستماع، والاهتمام يصبح بلا معنى حين لا يعود له مكان في قلب أنهكه الانتظار. المسؤولية العاطفية تعني أن ندرك احتياجات من نحب في وقتها، لا حين تتحول العلاقة إلى أطلال لا يفيد إصلاحها.
وحين يحدث التأخر في إدراك قيمة شخص ما، قد لا يكون العقاب هو الفراق بحد ذاته، بل الحقيقة القاسية بأن ما نحاول ترميمه لم يعد قائمًا. في كثير من الأحيان لا تنتهي العلاقات لأن الحب اختفى، بل لأنها لم تُعَش في وقتها الصحيح. الحب الذي يأتي بعد أن تغيّر الشخص، أو بعد أن انطفأ قلبه، أو بعد أن بنى لنفسه حياة أخرى، لن يعيد ما كان.
ومع أن المقولة الشعبية تقول «أن تأتي متأخرًا خيرٌ من الا تأتي أبدًا» إلا أن الواقع الإنساني يقول شيئًا آخر أكثر صدقًا وصرامة: «لقد تأخرت..انتهى» ففي العلاقات، لا توجد مشاهد ختامية تصنعها الدراما، ولا مظلات تُفتح تحت المطر لتعلن بداية جديدة. هناك توقيت لو فات، فات للأبد. وهناك لحظات إذا لم نعشها في حينها، تتحول ببساطة إلى شاشة سوداء تعلن بلا مبالغة ..النهاية.