الغد
ألوف بن* - (إندبندنت عربية) 2025/11/17
يخوض بنيامين نتنياهو معركته السياسية الأهم مدعوماً بوقف الحرب الذي فرضه ترامب وبقاعدة يمينية صلبة، محولاً الحرب والأزمة الدستورية إلى أداتين لتعزيز سلطته ودفع إسرائيل نحو حكم استبدادي. وعلى الرغم من تراجع شعبيته والانقسامات الواسعة، فإن ضعف المعارضة وتشظيها يمنحانه فرصة حقيقية للبقاء في الحكم بعد انتخابات العام 2026.
في 13 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي تسمّر الإسرائيليون أمام شاشات التلفاز. كان وقف إطلاق النار في غزة قد دخل حيز التنفيذ لتوه وأفرج عن آخر 20 رهينة إسرائيلية من قبضة "حماس"، وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مهندس اتفاق السلام، يخاطب الكنيست قائلاً "إن هذه ليست نهاية حرب وحسب، بل نهاية عصر من الإرهاب والموت، وبداية عصر الإيمان والأمل".
وبين الحضور كان يجلس مضيف ترامب، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وقد حرص الرئيس الأميركي على توجيه الشكر إليه فقال: "أود أن أعرب عن امتناني لرجل يتمتع بشجاعة ووطنية استثنائيتين"، وطلب من رئيس الوزراء الوقوف ففعل نتنياهو، ثم أومأ برأسه وابتسم وكانت هذه لحظة لافتة.
عندما نفذت "حماس" أسوأ هجوم في تاريخ إسرائيل على الإطلاق في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، والذي أسفر عن مقتل 1.200 مدني وجندي واختطاف 251 شخصاً، لم يتوقع سوى عدد قليل من المحللين أن يبقى نتنياهو في السلطة بعد عامين، فضلاً عن أن يغدق عليه الثناء رئيس أميركي. في الواقع كانت غولدا مائير آخر رئيسة وزراء قادت إسرائيل عندما تعرضت البلاد لهجوم مباغت، وقد استقالت بعد فترة وجيزة.
لكن نتنياهو أنكر أي مسؤولية ورفض التنحي، وبدلاً من ذلك حمّل الجيش وأجهزة الاستخبارات كامل المسؤولية عن الفشل في توقع الهجوم وصده وعرقل أي تحقيق في الأمر. ومن أجل الحفاظ على تماسك حكومته أطال أمد الصراع اللاحق على الرغم من تزايد الإرهاق الداخلي والضغوط الدولية.
وفي حين كان ترامب، الذي أجبر نتنياهو على وقف الحرب، يمدحه من على منبر الكنيست، كان رئيس الوزراء منشغلاً بالتخطيط لمعركته المقبلة: الانتخابات الإسرائيلية المقبلة. ومن المقرر أن يتوجه الإسرائيليون إلى صناديق الاقتراع في تشرين الأول (أكتوبر) 2026، ومن الممكن إجراء الانتخابات في وقت أقرب، ربما حزيران (يونيو) المقبل. وقد أعلن نتنياهو عزمه الترشح وتحقيق الفوز مجدداً. ولتحقيق ذلك حاول تصوير الحرب على أنها انتصار عظيم، واتهام منتقديه بأنهم أعداء من الداخل، وقبل كل شيء أعاد إطلاق جهوده الرامية إلى تحويل نظام البلاد لحكم استبدادي من خلال تجريد السلطة القضائية من استقلاليتها وجعل النظام السياسي والجيش وأجهزة الاستخبارات والموظفين المدنيين بصورة عامة أدوات مطيعة له، فضلاً عن محاولته السيطرة على وسائل الإعلام من خلال تشريعات جديدة.
ستكون الانتخابات المقبلة في البلاد بمثابة استفتاء وطني على حكم نتنياهو، كما كان الحال في كل الانتخابات الإسرائيلية منذ عودته للسلطة في العام 2009. (وقد تولى قيادة البلاد من العام 1996 إلى العام 1999).
للوهلة الأولى قد يبدو هذا نذير شؤم لرئيس الوزراء. فنتنياهو في نهاية المطاف لم يكن في منصبه وحسب عندما تعرضت إسرائيل للهجوم في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بل فشل أيضاً في تحقيق النصر الكامل الذي تعهد به على "حماس" على الرغم من ادعائه خلاف ذلك، وما تزال سلسلة من الفضائح الجنائية تطارده.
ولكن، على الرغم من كل ذلك، وحتى مع تراجعه في استطلاعات الرأي، قد يتمكن نتنياهو من الفوز مرة أخرى، حيث يمتلك رئيس الوزراء قاعدة كبيرة ومخلصة من المؤيدين. وعلى النقيض من ذلك، لا يستطيع خصومه الاتفاق على أي شيء سوى كرههم له. وحتى لو لم يستطع نتنياهو تحقيق فوز صريح وكامل فقد يتمكن من منع المعارضة من تشكيل غالبية برلمانية قادرة على الحكم. وستكون النتيجة حكومة تصريف أعمال يمكنه السيطرة عليها، تماماً مثلما فعل في الماضي.
من يمسك بزمام السلطة
إن وصف نتنياهو بأنه شخصية مثيرة للانقسام هو تحجيم للحقيقة. فمؤيدوه يرون فيه المخلص ويعتبرونه مقاتلهم على خط المواجهة في حرب ثقافية تقسم المجتمع اليهودي في إسرائيل، ولقد عمل على استبدال نخبة قديمة كانت علمانية وليبرالية وغربية التوجه، بنخبة جديدة محافظة ومتدينة لا تخجل من التعبير عن وجهات نظر قومية، وسن قوانين تمييزية ضد غير اليهود، أما بالنسبة إلى معارضيه فهو على النقيض من ذلك، ديماغوجي شديد الفساد لن يتوانى عن فعل أي شيء لكسب السلطة والاحتفاظ بها، بما في ذلك استغلال التوترات الطبقية بأساليب انتهازية.
ووفقاً لهذا الرأي، فإن أهدافه الحقيقية، حتى أثناء الحرب، لا علاقة لها بالأمن القومي، بل تتمثل في ترسيخ مكانته الشخصية وإسقاط التهم الجنائية الموجهة إليه والبقاء في منصبه، وبعبارة أخرى، فإن دافعه الرئيس ليس إنقاذ إسرائيل بل إنقاذ نفسه.
لقد سبق هذا الانقسام حكم نتنياهو، وهو ما شكل ملامح المعارك السياسية في إسرائيل لعقود، لكن خلال الأعوام الأخيرة أصبح الانقسام أشد حدة وارتفعت الأخطار. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022، حصل ائتلاف نتنياهو على غالبية ساحقة (وفق المعايير الإسرائيلية) بلغت 64 مقعداً من أصل 120 مقعداً في البرلمان، مما أتاح لرئيس الوزراء المضي قدماً في سياساته الأكثر إثارة للجدل. ولم يضيع أي وقت لفعل ذلك. بالاعتماد على أحزاب اليمين المتطرف في البلاد، أعلنت الحكومة الجديدة أن "للشعب اليهودي حقاً حصرياً وغير قابل للنقاش في جميع مناطق أرض إسرائيل"، بما في ذلك الضفة الغربية المحتلة، وهذا يعني إنكار أي حقوق للفلسطينيين الذين لم يكن بوسعهم سوى مشاهدة الأمر بإحباط، بينما تمضي إسرائيل قدماً في حملة غير مسبوقة للاستيلاء على الأراضي وتوسيع المستوطنات.
ومع ذلك، فإن معظم الإسرائيليين اليهود لم يُبدوا اهتماماً يذكر بالفلسطينيين، ناهيك عن عملية السلام، بل كانوا أكثر قلقاً في شأن الأزمة التي كانت تتكشف وسط مجتمعهم، ففي كانون الثاني (يناير) 2023، قدمت حكومة نتنياهو قوانين من شأنها أن تُجرد المحكمة العليا الإسرائيلية والمدعي العام من استقلاليتهما، وهما حارسا الحريات المدنية في دولة تفتقر إلى دستور رسمي، وعلى الرغم من أن نتنياهو روّج لهذه القوانين ظاهرياً بوصفها "إصلاحاً ضرورياً لتعزيز الحوكمة"، لكنها صممت في الواقع لبناء نظام ثيوقراطي استبدادي سيقوده هو، فالنظام القضائي بعد كل شيء لم يكن يحاكم رئيس الوزراء بتهم الفساد وحسب، بل كان على مدى عقود من الزمن يحمي حقوق الأقلية العربية في إسرائيل ويضمن الحريات الدينية وحقوق مجتمع الميم وحرية الصحافة، وكل هذه أمور تعد مكروهة لدى سياسيي اليمين واليهود الأرثوذكس في إسرائيل الذين سعوا إلى الحصول على مزيد من السلطة والموارد لمستوطني الضفة الغربية والمؤسسات الحاخامية.
وبالطبع قدمت المحكمة العليا أموراً كثيرة أيضاً لمساعدة المستوطنين، فعلى امتداد الخط الأخضر الذي يفصل إسرائيل ما قبل العام 1967 عن الأراضي الفلسطينية، وفرت السلطة القضائية إلى حد كبير غطاء قانونياً لإخضاع الفلسطينيين وتوسيع المستوطنات، لكنها في بعض الأحيان تدخلت في مشروع الاستيطان مذكرة باستمرار بالقانون الإنساني الدولي والتزاماته.
كانت هذه الإصلاحات القضائية المزعومة أكثر جهود نتنياهو جرأة للفوز بالحرب الثقافية، وقد جوبهت بأقوى حركة احتجاجية في تاريخ إسرائيل، فقد خرج مئات الآلاف إلى الشوارع وأعلن آلاف جنود الاحتياط أنهم سيرفضون الخدمة العسكرية إلى أن يجري سحب التشريعات، لكن رئيس الوزراء مضى قدماً في خططه إلى أن أجبرته أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 على تعليق مشاريع القوانين وتشكيل حكومة حرب موسعة، وحتى في ذلك الحين لم يضع نتنياهو نفسه في موقع قائد يوحد البلاد ويسعى إلى رأب الصدع، وبدلاً من ذلك وبينما كانت قوات الدفاع الإسرائيلية تقاتل على جبهات عدة وتواجه البلاد انتقادات حادة في الخارج، انشغل بالبحث عن كبش محرقة واستهدف بخاصة المؤسسة المسؤولة عن الأمن القومي في إسرائيل، وهي تقليدياً تعد القوة الأكثر تأثيراً في الحياة العامة ومعقلاً للمقاومة ضد نتنياهو. وبالإشارة إلى فشل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، أقدم رئيس الوزراء على إقصاء قادة الأمن والاستخبارات الذين عارضوه، فقد دفع نتنياهو، على سبيل المثال، رئيس الـ"شاباك" رونين بار إلى ترك منصبه بعد أن أدلى الأخير بشهادة تفيد بأن رئيس الوزراء طلب منه استهداف المحتجين المناهضين للحكومة كما لو كانوا إرهابيين، واستبدله بديفيد زيني، وهو جنرال سابق يصف نفسه بأنه "يهودي خلاصي"، نشأ داخل البيئة الدينية اليمينية المتطرفة المرتبطة بالمستوطنات في الضفة الغربية.
عدو عدوي
لقد أدت نزعة نتنياهو الاستبدادية إلى تراجع شعبيته، فمنذ طرح الإصلاحات القضائية، أظهرت استطلاعات الرأي المستقلة بصورة ثابتة أن ائتلافه الذي يقوده "حزب الليكود" يفشل في تحقيق الغالبية، واستطلاع القناة 12 يوضح الصورة كاملة. في أيار (مايو) 2023، كان ائتلاف نتنياهو يحظى بدعم كان سيمنحه 52 مقعداً من أصل 120 مقعداً في الكنيست. وفي كانون الأول (ديسمبر) 2023، بعد أشهر قليلة من الهجمات، انخفض هذا العدد إلى 44 مقعداً لكنه عاد وارتفع مجدداً إلى 52 بعد اغتيال إسرائيل زعيم "حزب الله" حسن نصر الله في العام 2024، وما يزال عند هذا المستوى حتى اليوم.
ومع ذلك، لا تعني عدم شعبية الائتلاف الواضحة بالضرورة هزيمته انتخابياً نظراً إلى طبيعة النظام السياسي الإسرائيلي المتشظية، حيث يتحقق الفوز عبر منع تشكيل ائتلافات بديلة، تماماً كما يتحقق عبر حماية ائتلافه الخاص، ليدخل نتنياهو حملة انتخابات العام 2026 وفي جعبته مزايا عدة. فوجوده في الحكم، على سبيل المثال، يمنحه السيطرة على شؤون الدولة مثل الحرب والموازنة والضرائب، مما يعني أنه يستطيع شن جولة أخرى من المواجهات مع "حماس" أو حزب الله" أو إيران وتأجيل الانتخابات، أو إغراء الناخبين بخفوض ضريبية ومكاسب مالية تفضيلية. وقد أثبت الاقتصاد الإسرائيلي قدرته على الصمود على الرغم من الكُلف الباهظة للحرب والتهديد المتزايد بالمقاطعات الدولية، إذ سجل الشيكل أداء أقوى مما كان عليه قبل الحرب، وحققت بورصة تل أبيب أرقاماً قياسية.
وعلاوة على ذلك، يستفيد رئيس الوزراء من قاعدة موحدة خلف قيادته تشترك في رؤية واحدة، وهي التفوق اليهودي على الفلسطينيين وإسرائيل الكبرى التي تضم الضفة الغربية، وربما غزة، وربما أجزاء من سورية، والمعارضة الصريحة لقيام دولة فلسطينية. وهم يمقتون أي مؤسسة تفرض ضوابط وموازين على سلطة الحكومة.
وعلى النقيض من ذلك، فإن معارضة نتنياهو منقسمة. وقد تتفق مختلف الأحزاب خارج ائتلاف حكومته جميعاً على كره شخصية نتنياهو واستئثاره بالسلطة، لكنها بخلاف ذلك تتوزع على اتجاهات سياسية مختلفة ومتباعدة. بعضها يدعم أجندة رئيس الوزراء القومية بينما يرفضها آخرون بشدة. كما ترفض معظم هذه الأحزاب العمل مع الحزبين العربيين في إسرائيل على الرغم من أن التوقعات تشير إلى إمكانية فوزهما بـ10 مقاعد، وهو عدد لا بد منه لكي تحصل المعارضة على غالبية برلمانية من 61 مقعداً. وقد اختارت المعارضة اليهودية في إسرائيل الاصطفاف إلى جانب نتنياهو متخلية مسبقاً عن أي موقف معارض بشأن الحرب الأخيرة.
تجرأ يائير غولان، الجنرال السابق الذي وحّد بقايا اليسار الصهيوني الإسرائيلي تحت مظلة حزب الديمقراطيين، على انتقاد سلوك إسرائيل في غزة ووصفه بأنه "دولة تقتل الأطفال كهواية". ولكن حتى هو لن يقف موقفاً حازماً ضد الصراع أو يُظهر تعاطفاً مع الفلسطينيين المنكوبين. وهو يدعم حل الدولتين، ولكن فقط في المستقبل البعيد.
وبالتالي قد يتمكن رئيس الوزراء من توسيع قاعدة مؤيديه من خلال الإشارة إلى الحرب. ففي نهاية المطاف حظي أسلوبه العدواني في القتال بدعم واسع بين الغالبية اليهودية في البلاد. وفي نظر الرأي العام السائد، كان الدمار اللاحق بغزة، بما في ذلك مقتل أكثر من 68 ألف فلسطيني وتدمير مدن وبلدات بأكملها والتحضير لعمليات طرد جماعي، رد فعل مبررا على فظائع "حماس". أما الانتقادات العالمية لاستخدام إسرائيل المفرط والعشوائي للقوة والاتهامات بارتكاب الإبادة الجماعية وتصوير نتنياهو على أنه قاتل جماعي على نطاق واسع، فقد قُدمت للإسرائيليين على أنها مجرد مواقف معادية للسامية.
في الواقع كانت الهجمات الإسرائيلية خارج غزة أكثر شعبية. فقد اعتبر الإسرائيليون على نطاق واسع هزيمة "حزب الله" اللبناني، بما في ذلك اغتيال نصر الله، وقصف المنشآت الإيرانية في حزيران (يونيو) (مع إرسال ترامب طائرات حربية أميركية للمساعدة) انتصارات تاريخية على أعداء إسرائيل الأكثر خطورة. وهنا أيضاً كانت المعارضة داعمة بصورة كاملة. وكان النقاش الوحيد يدور حول من يستحق الثناء، رئيس الوزراء الذي أمر بتنفيذ الضربات، أم الطيارون وعناصر الاستخبارات الذين نفذوها.
كانت القضية الوحيدة التي قسمت الرأي العام خلال الحرب هي محنة الرهائن الإسرائيليين في غزة. خلال العام الثاني من الصراع، فضل معظم الإسرائيليين وقف إطلاق النار الذي يعيد الأسرى إلى الديار، وواجه نتنياهو احتجاجات جماهيرية قادتها عائلات الرهائن. لكن نتنياهو اختار، بتحريض من زعيمي ائتلافه اليميني المتطرف إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، تصعيد القتال بدلاً من التهدئة. وقد شوه حلفاؤه سمعة عائلات الرهائن التي تقود التظاهرات ووصفوهم بأنهم متعاونون مع العدو. ولم يعد آخر الرهائن إلا عندما فرض ترامب على نتنياهو وقف إطلاق النار واتفاق تبادل الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين.
ومع ذلك، كانت هذه نتيجة جيدة بالنسبة لرئيس الوزراء. فبقبوله الاتفاق، لبى المطلبين الرئيسين للمتظاهرين، وهما إنهاء الحرب وإعادة الرهائن، وبإلقاء اللوم على ترامب بشأن الاتفاق تجنب غضب شركائه المتشددين.
يتجاوز نتنياهو الخلافات السياسية بسلاسة من خلال تبني موقفين متناقضين في آن. ولا يمانع رئيس الوزراء نفسه الذي يبالغ في إظهار قوته في أن يصور على أنه مجرد دمية في يد جهات أقوى، ولا يهمه إن بدا قوياً أو ضعيفاً ما دام قادراً على الاحتفاظ بمنصبه.
تحالف الراغبين
يعد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت الخصم الأكثر خطورة أمام نتنياهو. وقد نجح بين حزيران (يونيو) 2021 وحزيران (يونيو) 2022 في قطع سلسلة حكم نتنياهو التي استمرت 15 عاماً. وبينيت رجل طموح يسعى بوضوح نحو أهدافه، ولم تتلطخ سمعته بقضايا فساد شخصي. وهو رجل أعمال ناجح في مجال التكنولوجيا وضابط سابق في القوات الخاصة يرتدي القلنسوة اليهودية [الكيباه]، وهذا يجعله شخصاً يجسد مزيجاً بين تيارين مهيمنين في الثقافة الإسرائيلية المعاصرة: القومية الدينية والمادية العلمانية. ويدرك بينيت تماماً أن مفتاح السلطة في النظام المتعدد الأحزاب في إسرائيل يكمن في تغيير التحالفات وجذب المنشقين. وقد أتقن نتنياهو هذا التكتيك حين اشترى دعم خصومه من خلال منحهم مناصب وزارية.
في الواقع، خدم بينيت في حكومة نتنياهو من العام 2013 إلى العام 2020 وتبوأ منصب وزير الدفاع، بل وتجاوز رئيس الوزراء في تبني مواقف يمينية أكثر تشدداً. لكن بينيت تفوق في العام 2021 على رئيسه السابق وعبر نحو المعسكر الآخر وشكل ائتلافاً غير مسبوق مع الزعيم الوسطي يائير لابيد وحزبين يساريين، وحتى مع حزب عربي محافظ اجتماعياً. وقد أوصلته هذه الانتهازية إلى السلطة.
ثم انهارت حكومة "التغيير" هذه بعد عام مما مهد الطريق لعودة نتنياهو الانتقامية. لكن صعودها أظهر أن بينيت يعرف كيف يبني الجسور بين الانقسامات المجتمعية ويجمع بين اليمين واليسار، وبين اليهود والعرب، وبين المتدينين والعلمانيين. وقد يكون شعار حملته الانتخابية المقبلة "نتنياهو يفرق وأنا أوحّد".
في الوقت الحالي، تشير استطلاعات الرأي إلى أن بينيت يمتلك فرصة لا بأس بها للفوز، لكن طريقه ليس واضحاً على الإطلاق في البداية، لأن بينيت، الذي استقال من البرلمان بعد عامه في منصب رئيس الوزراء، لم يعلن إلا أخيراً نيته الترشح، ولم يشكل بعد فريقاً سياسياً، ناهيك عن جمع قادة المعارضة الإسرائيلية المتناحرين (الذين لم يتفقوا بعد على التقاط صورة جماعية). ولأنه لن يذهب بعيداً هذه المرة، فقد تعهد، مثل معظم قادة المعارضة، بعدم إشراك أي حزب عربي في ائتلافه.
وكذلك، استبعد بينيت عملياً تشكيل ائتلاف مع الفئة السكانية الأخرى الأكثر إثارة للجدل والأسرع نمواً في إسرائيل، اليهود المتشددين دينياً (الحريديم). ولكن خلافاً لموقفه من الأحزاب العربية، قد يكون استبعاد اليهود المتدينين المتشددين خطوة سياسية ذكية، فهذه الفئة السكانية تقدم لبينيت قضية خلافية يمكن أن يستخدمها لتفكيك ائتلاف نتنياهو، وهي التجنيد الإلزامي.
لعقود من الزمن، تمتع طلاب المعاهد الدينية اليهودية المتشددة بإعفاء شامل من الخدمة العسكرية، وهو امتياز يحرص قادتهم على حمايته. ولكن في العام 2023، قضت المحكمة العليا الإسرائيلية بأن هذا الإعفاء غير قانوني وأمرت الحكومة بصياغة تشريعات تضمن المساواة بين الشباب في سن الخدمة العسكرية. وفي البداية لم تكن المؤسسة العسكرية متحمسة لتجنيد أعداد كبيرة من المراهقين الذين يفتقرون إلى التعليم الأساس في الرياضيات واللغة الإنجليزية، ويطالبون بنظام غذائي خاص ودروس توراتية صارمة وبالابتعاد من المجندات. لكن أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 التي أسفرت عن آلاف الضحايا وإطالة مدة خدمة المجندين والاحتياطيين غيرت هذه التصورات، حيث غضب بقية المجتمع الإسرائيلي من اضطرار أبنائهم للخدمة بينما يُعفى الحريديم منها. وكان الغضب أشد بين القوميين المتدينين الذين يخدمون في الجيش على الرغم من التزامهم بنمط حياتهم الأرثوذكسي، غالباً في الخطوط الأمامية وأحياناً خلال معظم حياتهم المهنية.
وحتى الآن تبين أن إيجاد تسوية ترضي كلا من الحاخامات المتشددين وقانون الدولة أمر مستحيل، مما يسبب صداعاً لنتنياهو، إذ يقوم ائتلافه على تحالفه مع الأحزاب المتشددة والأحزاب القومية المتدينة. وقد انسحبت الأحزاب المتشددة من حكومة نتنياهو في يوليو (تموز) الماضي للضغط عليه لإيجاد مخرج من قرار المحكمة، لكن المتشددين ما يزالون يفضلون نتنياهو بوضوح على بينيت وشركائه العلمانيين، ولذلك لم يسقطوا حكومته.
في المقابل، يرجح أن ينشق الناخبون القوميون المتدينون، وقد أغراهم بينيت، بوعده بتشكيل "تحالف الخدمة". ومع ذلك يفضل كثير منهم قومية نتنياهو المتشددة على تعاون منافسه مع الوسط واليسار الأقل حماسة في شأن المستوطنات في الضفة الغربية.
على قدم وساق
بينما يعمل بينيت على تجهيز حملته الانتخابية، ومع انتهاء الحرب (أو على الأقل توقفها موقتاً)، استأنف نتنياهو جهوده الرامية لتحويل إسرائيل إلى دولة استبدادية. فقد أعادت الحكومة إطلاق حملتها لإحداث تغييرات جذرية في النظام القضائي محققة أكبر انتصار علني لها حتى الآن بإقصاء المدعية العسكرية العامة الجنرال يفعات تومر يروشالمي. وليست يروشالمي مثالاً للنزاهة، فقد تجاهلت مراراً الاتهامات الموجهة للقوات المسلحة بارتكاب جرائم حرب. ولكن عندما حاكمت فريقاً من جنود الاحتياط لتورطهم في تعذيب أحد الأسرى من غزة أثارت غضب أنصار الحكومة، وفي نهاية المطاف ألقي القبض عليها بتهمة تسريب فيديو التعذيب ثم التستر على الأمر والكذب بشأن نشر مقطع الفيديو. وبعد ذلك اعتقلت تومر يروشالمي. وقد استغل فريق نتنياهو قصتها لتصوير الجهاز القضائي على أنه مجموعة من الخونة الذين يجب تطهيرهم. كما أعلن نتنياهو دعمه إعدام الإرهابيين، وهو مطلب أساسي لليمين المتطرف في إسرائيل. وأعاد إحياء محاولاته إقالة المدعية العامة الإسرائيلية غالي بهاراف ميارا. وتتمتع ميارا، بصفتها المدعية العامة الأعلى في البلاد، بصلاحيات واسعة خارج نطاق السيطرة السياسية، مما سمح لها بالاستمرار في ملاحقة رئيس الوزراء قضائياً.
في الوقت نفسه، تواصل الحكومة تعزيز استبدادها الثيوقراطي من خلال فرض تشريعات جديدة من بينها مشروع قانون يمنحها مزيداً من السيطرة على وسائل الإعلام ومشروع قانون آخر من شأنه توسيع صلاحيات المحاكم الحاخامية. وقد يحدد مصير هذه الجهود ما سيؤول إليه وضع الفضائح المتعلقة بنتنياهو ودائرته المقربة. فبالإضافة إلى محاكمته الجارية في ثلاث قضايا فساد، يخضع كل من يوناتان أوريخ وسروليك (يسرائيل) أينهورن وإيلي فيلدشتاين، وهم مهندسو الدعاية الذين صاغوا رسائل نتنياهو السياسية، لتحقيق جنائي بتهمة تقاضي أموال من كل من رئيس الوزراء وقطر (الجهة الممولة لـ"حماس") قبل الحرب الأخيرة وأثناءها كما يُزعم. وقد زاد الاتفاق الذي أبرمه نتنياهو مع قطر لتمويل "حماس" خلال الأعوام التي سبقت السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 من حدة هذا الجدل، ونظر إلى تعيين زيني على رأس جهاز الـ"شاباك" على نطاق واسع على أنه مناورة لإغلاق القضية، فضلاً عن كونه وسيلة أخرى لمحاولة التخلص من بهاراف ميارا. وقد خضعت الشرطة الوطنية في البلاد للتسييس بصورة كبيرة بالفعل على يد وزير الأمن القومي بن غفير.
خففت وحشية الشرطة وإرهاق الحرب من حدة الاحتجاجات، ولكن مع كل هذه الفضائح والقضايا المثيرة للجدل فقد يصعب فهم سبب رغبة الإسرائيليين في إعادة نتنياهو للسلطة، حتى لو أسقطت التهم الجنائية الموجهة إليه، بخاصة بعد أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. لكن أنصار رئيس الوزراء يرون التحقيقات ضده مؤامرة من الدولة العميقة لمنع إسرائيل من التحول إلى الثيوقراطية اليهودية التي يطمحون إليها، وبهذا لا يختلف هؤلاء كثيراً عن أشد مؤيدي ترامب. فالزعيمان يستخدمان الأساليب نفسها. وفي بلد يعد فيه الدعم الأميركي أمراً بالغ الأهمية، يحظى نتنياهو بتأييد ترامب. بل إن ترامب أدان المحاكمات ضد نتنياهو ووصفها بأنها حملة اضطهاد، تماماً مثلما فعل مع محاكماته الخاصة. وخلال كلمته أمام الكنيست، دعا ترامب رئيس إسرائيل إلى العفو عن رئيس الوزراء، ولذلك كان لدى نتنياهو كل الأسباب ليبتسم أثناء حديث ترامب، حتى وهو يستعد لأحدث وأصعب معركة في مسيرته المهنية.
قد يكون الفوز مجدداً في الانتخابات المقبلة أصعب من محاربة "حماس". لكن هذه معركة مألوفة بالنسبة لنتنياهو، السياسي الإسرائيلي المخضرم الذي يتقن فن البقاء (الناجي الأكبر في الحياة السياسية الإسرائيلية)، وهو قادر على الخروج منتصراً.
*ألوف بن: رئيس تحرير صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، وزميل رفيع في "مركز بيل غراهام للتاريخ الدولي المعاصر" في جامعة تورنتو. المقال مترجم عن "فورين أفيرز"، حيث نشر في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2025