فيسبوك
عيسى الشعيبي
يستطيع قادة الاحتلال الممتلئين بروح الانتقام، أن يسوّقوا على أنفسهم، بعد هذه المقتلة، وهم تحقيق الفوز في حربهم الوحشية على قطاع غزة، وهو امر بعيد المنال على أي حال، ويمكن لهؤلاء المجانين كذلك التقاط صورة انتصار من داخل غرفة العناية الحثيثة في مستشفى الشفاء مثلاً، او قرب قبر جماعي يضم جثامين اطفال رضّع ونساء بلا عدد، لكن أحداً منا، نحن المتسمرين امام الشاشات، المروعين من هول ما نرى من فظائع، المفعمين اعجاباً ببطولات المقاومة، لن يتزعزع يقينهم الراسخ بحتمية دحر الاحتلال في نهاية مطاف قد لا يطول كثيراً.
ليس الأمر مجرد احتيال على اللغة أو مكابرة في غير موضعها، كي نقول أن أعتى الجيوش عدة وعتاداً، وأعظم القادة العسكريين في التاريخ المعاصر، تهزمهم صورة طفل مسجى بين ذراعيّ أبيه، فما بالك مع هذا المشهد البانورامي من الطفولة مقطعة الأوصال تحت الأنقاض في القطاع المجدوع المحاصر؟ ومن في وسعه الزعم بالانتصار على آدم ويوسف واميرة ومحمد، ونحو أربعة آلاف من مجايليهم، حيث بعضهم لا يزال مجهول المصير او ممزق الاشلاء تحت الركام؟
وأي جرأة عنصرية فاجرة تسكن قلب آدمي، إلى أي دين أو لون أو عرق انتمى، كي يبرر على الهواء قصف الآمنين في مراكز الايواء، بحجة حق الدفاع عن النفس،؟ ومن هذا الذي يميت ضميره الإنساني الى هذا الحد، سيما في الدول الغربية، كي يسوّغ هدم سقف مستشفى أو قبة مسجد بحجة ما؟! حيث كانت مشاهد الموت الجماعي في كل مكان، أقل ما انشغل به بال قادة اميركا وأوروبا، وهم يتابعون من بُعد اسراب الطائرات وارتال الدبابات تقصف من الجو والبر، من الغسق الى الشفق، دون ان تُحرك فيهم أي وازع أخلاقي أو تقلقهم وخزة ضمير ينهى عن مثل هذه الارتكابات.
وإذا كانت هذه الحرب التي لا تماثلها أي حرب أخرى شهدها القطاع الباسل، سواء في في درجة الوحشية او الاتساع، قد نجحت في احتلال مساحات فارغة من اي عمران في الشريط الساحلي الضيّق، وأمسكت ببعض أطراف الأحياء السكنية من حول مدينة غزة وغيرها، فإنها في واقع الأمر كانت للمعتدين خسارة فاقت التوقعات المسبقة، وهزيمة صافية على شاشات التلفزيون، حيث الاعلام هو الميدان الأكثر أهمية للحروب المعاصرة في زمن الصورة. وليس أدل على ذلك من هذه الإدانات الواسعة التي غمرت شوارع المدن والعواصم في شتى بقاع الأرض، بما فيها واشنطن ونيويورك، وهذا التقزز الذي فاض حتى من على ألسنة أكثر أصدقاء إسرائيل ولعاً بواحة الديمقراطية الوحيدة في صحراء الشرق الأوسط.
الى ذلك يمكن القول إن ما شهده القطاع الفقير البائس المجوّع، على مدى ستة أسابيع عصف بها الموت والدمار على مدار الساعة، لم يكن في حقيقته حرباً بين جيشين، ولم يرق حتى إلى مستوى المواجهة المتكافئة نسبياً، خصوصاً من حيث العديد والعدة. بل كان عدواناً غاشماً بكل ما في الكلمة من معنى. كما يمكن الإضافة بثقة ان هذا القتال الذي لا سابق له من جانب المقاومة، ولا نظير له على مدار العقود الطويلة الماضية، سطر أعظم صفحة في سجل الكفاح الفلسطيني على الاطلاق، صفحة لم يُسجل مثيلاً لها جيل الآباء والاجداد من حيث البأس والفاعلية، رغم كل ما قدمه الأوائل المؤسسين من تضحيات كبيرة، وسطروه من ملاحم بطولة، وانجزوه من وقائع مهدت الأرضية الملائمة لهذه الملحمة الخالدة.
يبقى بعد ذلك كله ضرورة العمل على عدم السماح لإسرائيل أن تفلت من العقوبة جراء ارتكاباتها البربرية في قطاع غزة، وفي الضفة الغربية ايضاً، ومن ثم العمل على تقديم قادتهاـ السياسيين والعسكريين، إلى محكمة الجزاء الدولية، وملاحقتهم أمام كل هيئة قضائية ممكنة. وأحسب أن هذه مهمة شخصية لكل مثقف او فنان أو برلماني أو محام أو ناشط حقوقي، بل ولكل المنظمات والإتحادات وهيئات حقوق الإنسان، حيث ينبغي الاستمرار على نحو منهجي منظم، في توثيق الجرائم، وأخذ الشهادات من الضحايا الأحياء بعد، وجمع المواد الفيلمية الغزيرة، وهي بمئات الألوف من الصور والمقاطع الفيلمية، لعلنا نتمكن هذه المرة من جلب المجرمين إلى قاعات المحاكم ومقاضاتهم بصورة مذلة، ليس من أجل إنزال العقوبات وإحقاق الحق وإقامة ميزان العدل فقط، وإنما أيضاً من أجل ردع نظرائهم وحلفائهم عن ارتكاب مثل هذه الجرائم مستقبلاً.