عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    27-Jun-2025

الإبداع وخيمة بلا جدار

 الدستور-حسن عبد السلام أبودية

 
في العالم العربي، يُحاط الإبداع بالكثير من العناوين الكبيرة: وزارة ثقافة، جائزة كبرى، مهرجان رسميّ، اتحاد للكتّاب. تبدو الصّورة للوهلة الأولى مشرقة، وكأنّ الثّقافة لها مَن يرعاها، وأنّ المبدعين محاطون بكيانات تدافع عنهم وتحمل قضاياهم. غير أنّ الاقتراب أكثر يكشف هشاشة في البناء، وغياباً في المضمون، كأنّنا أمام خيمة لا تقي من شمس ولا تردُّ ريحاً، أو أمام مؤسّسة تعلن ولاءها للإبداع بينما تدفنه حيّاً في صمتها.
 
فحين يقرع المبدع باب اتحاد الكتّاب، لا يفعل ذلك فقط طلباً لبطاقة عضويّة، بل يحمل في جيبه حلماً قديماً بأن يجد بيتاً أخيراً لحرفه المشرّد. إنّه الحلم الأبسط والأعمق: ألّا يكون الكاتب جزيرة معزولة في محيط من العتمة، بل شظيّة في كيان جماعيّ، عنوانه المبدأ، وحصنه المشترك الكلمة. غير أنّ الحلم، مثل أغلب الأحلام التي نسجها الأدب العربيّ المعاصر، ما إن يصطدم بالواقع حتّى يتبدّد، أو ينكمش ليصير أوراقاً رسميّة، وبيانات تنديد، واجتماعات باهتة لا تتجاوز طاولات الخشب الثّقيلة وروائح القهوة الباردة.
 
منذ ولادتها، بدت روابط المبدعين واتحاداتهم في العالم العربيّ كأنّها تسير على قدمين مختلفتين: قدم تمشي على أرض المبدعين، وقدم أخرى تُجبر على الرّقص في بلاط المؤسّسات الرّسميّة. هذا التّناقض البنيويّ جعلها تعاني من شللٍ مزمن: فهي لا تستطيع أن تكون نقابة، لأنّ الإبداع لا يُنقَّب، ولا تستطيع أن تكون حركة مقاومة، لأنّ ميزانياتها غالباً ما تأتي من الجهات التي ينبغي أن تُنتقَد. هي عالقة في البرزخ: لا تملك سلطة تنفيذيّة، ولا جاذبيّة جماهيريّة، ولا استقلالاً يكفي لتكون ناطقة باسم من لا صوت له.
 
فهل وُجدت اتحادات الكتّاب فعلاً لتخدم الإبداع؟ أم أنّها نسخة مثقّفة من النّقابات الرّسميّة التي تسعى لتدجين الصّوت الحر؟ السّؤال لا يُطرح من باب الاتهام، بل من باب المساءلة الضّروريّة في زمن تتراكم فيه الشّعارات، وتتآكل فيه الوظائف الحقيقيّة للمؤسّسات الثّقافيّة. إنّ نظرة سريعة إلى أداء معظم هذه الاتحادات تكشف عن أزمات متشعّبة: غياب التّأثير، ضعف الحضور الجماهيريّ، الارتهان للسّلطة أو للمموّل، وعدم القدرة على خلق رأي عامّ ثقافيّ يتجاوز حدود البيانات الموسميّة والتّكريمات البروتوكوليّة.
 
أين الاتحاد حين يُعتقل كاتب، أو يُمنع شاعر، أو تُصادر رواية؟ هل تصدر بيانات الإدانة إلّا من رحم صدفة؟ وهل لهذه البيانات قوّة معنويّة تؤثّر في الرّأي العامّ؟ أغلب الظّن أنّ صوت الاتحادات بات أقرب إلى الهمس في صالة فارغة، لا أحد يسمعه، ولا أحد ينتظره. المفارقة أنّ هذه المؤسّسات وُلدت لتكون الصّوت الجمعيّ للمبدعين، لكنّها تحوّلت إلى كيانات بيروقراطيّة، تشبه المؤسّسات التي يفترض أن تُقاومها.
 
في البدء، كانت هذه الروابط تُؤسّس بحسن نية. أراد المؤسّسون –ولا نشكك في نواياهم– أن يُقيموا كيانات ترعى الإبداع، تحمي حريّة التّعبير، تُحصّن الكاتب من سطوة السّوق وسطوة السّيف. لكن مع الوقت، تحوّلت هذه الكيانات إلى كائنات ورقيّة: تكتب بيانات تدين فيها قمعاً ما، ثمّ تصمت دهراً، أو تنظّم مهرجاناً يُصفّق فيه الكتّاب لبعضهم البعض، ويخطب فيه مسؤول لا يقرأ. السّؤال هنا ليس عن الأشخاص، بل عن الفكرة نفسها: هل يمكن للإبداع أن يُدار من فوق، أن يُنظَّم كما تُنظَّم عقود المقاولين؟ هل نحتاج فعلاً إلى اتحاد يجمع من فرّقهم الأدب منذ البداية؟
 
المبدع الحقيقيّ لا يُعبّر عن ذاته فقط، بل عن سؤال الإنسان في هذا الوجود. فهل يُعقل أن نُخضع هذه المهمّة النبيلة إلى معايير بيروقراطية؟ هل نطلب من الشاعر أن يملأ استمارة عضويّة كي يُعترف بشعره؟ وهل نُحدّد قيمة الكاتب بناءً على حضوره في اجتماعات الاتحاد؟ هذه آليات لا تنتمي إلى الإبداع، بل إلى التّنظيمات التي تنظر إلى الثّقافة كعمل إداريّ، لا كنبض إنسانيّ. وهنا تكمن المعضلة: المؤسّسة لا تفهم الشّعر، والقصيدة لا تعرف طريقها إلى جدول الأعمال.
 
يتقدّم الكاتب بطلب العضوية إلى رابطة الكتّاب وكأنّه يضع روحه في الميزان، ويرجو أن يُعترف به. هل العضوية شهادة جودة؟ أم هي ختمٌ اجتماعيّ للانتماء؟ ثم إذا حصل عليها، ماذا يحدث؟ لا معاش تقاعديّاً، لا تأميناً صحيّاً، لا دعماً حقيقيّاً في النشر، لا وقفة حاسمة حين يُمنع كتابه من التداول، أو يُفصل من عمله بسبب مقال. تكاد تكون هذه الرّوابط وكأنها صالونات أدبية ببزّات رسميّة، تستهلك الأدب في الشّكليّات، وتمارس دور «النخبة» من وراء زجاج ملوّن. حتّى حين يتعرّض أحد أعضائها لقمعٍ أو اعتقال، تخرج البيانات خشبيّة، أشبه بواجب وظيفيّ لا بنداء ضمير. فهل يحق لنا بعد ذلك أن نسأل لماذا لا تكترث السّلطة بصوت المثقّف؟ لأنّها تعرف أن روابطه لا تُؤلِم، أن احتجاجاته مؤقّتة ومهذّبة، وأنّه حين يغضب يكتب مقالاً، وحين يُعتقل يُشار إليه في اجتماع، وحين يموت يُكرَّم.
 
إذاً لماذا يسعى المبدعون رغم كلّ ذلك إلى عضوية هذه الرّوابط؟ هل هي الرّغبة في الاعتراف؟ في الانتماء إلى «نخبة» تمنحهم صكّ الجودة؟ أم هي محاولة لخلق شبكة دعم داخل الحقل الثقافيّ؟ لا يمكن إنكار أنّ كثيرين يطرقون باب هذه الاتحادات بدافع الأمل، ظنّاً أنّها ستحميهم من التّهميش، أو تفتح لهم أبواب النّشر والمشاركة. لكن الواقع يكشف أنّ هذه الأبواب تُفتح غالباً وفق موازين قوى غير جماليّة، بل علاقات ومصالح، وربما انتماءات سياسيّة أو أيديولوجيّة.
 
ولنكن صرحاء: هل تمتلك هذه الرّوابط القدرة الحقيقيّة على حماية أحد أعضائها؟ لنفترض أنّ كاتباً اصطدم بسلطة ما، أو واجه منعاً أو تضييقاً، فماذا تملك الرّوابط أن تفعل؟ غالباً لا شيء سوى بيان خجول، وقد لا يصدر أصلاً. في الواقع، لو قرر اتحاد الكتّاب في بلد ما أن يدعو لإضراب احتجاجيّ ضد قمع حريّة التّعبير، فهل سينضمّ إليه أحد؟ بل هل سيسمع به أحد؟ هنا لا بد أن نُعيد طرح السّؤال الجوهريّ: لماذا لم تتمكّن هذه الرّوابط من تشكيل قوّة ناعمة حقيقيّة، تمارس الضّغط الثّقافيّ كما تمارسه النّقابات العمّاليّة أو الصّحفيّة في بعض البلدان؟
 
لكن لنكن منصفين: بعض الرّوابط حاولت أن تنهض. حاولت أن تُؤسّس لصوت جماعيّ لا يخاف، أن تخلق منصّات حقيقيّة للحوار، أن تجمع الشّتات، أن تُؤمّن للكاتب دوراً غير مهمّش في الشّأن العامّ. إلّا أنّ البنية الأعمق رفضت ذلك. الإعلام لا يسلّط الضّوء إلّا على من يُصفق، والمؤسّسات الرّسميّة لا تدعم إلّا من يهادن، والكاتب نفسه –وهنا المأساة– قد يرضى أن يكون عضواً صامتاً في اتحاد صامت. البعض ينتمي لأنّهم يشعرون بأنّهم بذلك أصبحوا «كتّاباً معترفاً بهم»، وآخرون يطمحون إلى الحضور في فعاليّات وندوات وسفر، وثالث يحلم بجائزة قد تمرّ من خلال هذه القنوات. أين ضاع المشروع؟ في لحظة ما، استبدلنا الحلم بجداريّة فيها صور المؤسّسين، استبدلنا النّضال بخطابات مكرّرة، واستبدلنا المعنى بالهيكل.
 
ربما لأنّها بقيت بعيدة عن الناس. فالمبدع العربيّ –إلّا من رحم ربك– يعيش في عزلة مزدوجة: مع السّلطة التي تخافه، ومع الجمهور الذي لا يراه. الرّوابط التي يُفترض أن تكون الحاضنة، تحوّلت إلى نادٍ مغلق لا يهمّه أن يسمعه الشّارع، بل أن يعترف به الوزير. وفي هذا السّياق، يتوارى المشروع الإبداعيّ خلف التّظاهرات الشّكليّة: مهرجانات تُصرف عليها ميزانيّات هائلة لتكريم أسماء معروفة سلفاً، وبيانات موسميّة تتحدّث بلغة فضفاضة عن «دور المثقّف» بينما يتمّ تهميشه عمليّاً.
 
ثمّة سؤال موجع يجب أن نطرحه اليوم: ماذا لو أضرب الكتّاب جميعاً عن الكتابة؟ هل ستنقلب الدنيا؟ هل سيتوقّف النّاس عن الأكل؟ هل ستخرج الجماهير إلى الشّوارع؟ الحقيقة المرّة: لا. لأنّنا لم نربط الكتابة بالحياة، بل جعلناها هامشاً مترفاً، جميلاً، لكنّه قابل للتّجاوز. فحين نُعتقل، لا يصرخ الناس، لأنّنا لم نصرخ لأجلهم من قبل. وحين يُغتال حلمنا، لا يتوقّف الوطن، لأنّنا لم نربط حلمنا بحلمه. فما الذي تبقّى؟ قصائد تُملى في مهرجانات فارغة، مقالات تُنشر في مجلات لا تُقرأ، وصوت إبداعيّ لم يجد من يحتضنه، لا في الرّابطة، ولا خارجها.
 
ولعلّ السّؤال الأكثر فتكاً: لماذا لم تُفلح روابط المبدعين في خلق حاضنة جماهيريّة؟ لأنّهم –غالباً– لم يكتبوا للنّاس، بل كتبوا لبعضهم البعض. كتبوا ليُصفّق لهم زملاؤهم في المساء، لا ليبكي فتى في حيّ شعبيّ حين يقرأ قصيدة. عجزوا عن أن يصنعوا حراكاً إبداعيّاً يمسّ الشّارع، يغيّر اللّغة اليوميّة، يزرع الحلم في عين العابر. لأنّهم في أغلبهم، استوطنوا لغة عالية لا تُفهم، وارتدوا بزّات فكريّة لا تُلبس، وصعدوا إلى أبراج عاجيّة لا تُرى من تحت. فمن الطبيعي إذًا ألّا يسمع أحد نداءهم حين يُقمعون، أو حين يتساقطون فرادى كأوراق الخريف.
 
هل هم نخبة معزولة؟ أم إنّهم لم يؤمنوا أصلاً بجدوى العمل الجماعيّ؟ هل الإبداع بطبيعته فرديّ، لا يستطيع أن يتّحد إلّا في لحظات استثنائيّة؟ أم أنّ النّظام الثّقافيّ ذاته بُني على إقصاء الصّوت الحرّ؟ قد يكون الجواب خليطاً من كلّ ذلك، لكن ما هو مؤكّد أنّ اتحاد الكتّاب لم يتحوّل –كما كان مأمولاً– إلى صوت المبدعين، بل إلى ظلّ المؤسّسة الرّسميّة في حقل الثّقافة.
 
والمعضلة الأعمق أنّ كثيراً من المبدعين –وهم داخل هذه الاتحادات– يعيشون انفصاماً بين ما يكتبونه وما يقبلونه من ممارسات داخل مؤسّساتهم. يكتب الشّاعر قصيدة عن الحريّة، ثمّ يصفّق في مؤتمر لمداخلة تمجّد الرّقيب. يكتب الرّوائي عن الهامش، ثمّ يتفاخر بأنّه صعد إلى المنصّة تحت سقف السّلطة. التّناقض هنا ليس أخلاقيّاً فقط، بل وجوديّاً: كيف يمكن للمثقّف أن يقبل بدفن صوته وهو يكتب عن الحياة؟
 
ربّما لم يعد السّؤال اليوم: ماذا تفعل الاتحادات للمبدعين؟ بل: لماذا لا نزال نؤمن أنّها ستفعل شيئاً؟ وهل نحتاج أصلاً إلى مؤسّسة لتمنحنا بطاقة الاعتراف؟ أليست الكتابة في جوهرها تمرّداً على كلّ سلطة، بما فيها سلطة المثقّف الرّسميّة؟ أليس الإبداع هو فعل الحريّة الأوّل، الذي لا يمكن أن يُختزل في هويّة مؤسّسيّة؟
 
ولعلّ السّؤال الأشد وقعاً: من يمنح الشّرعية لمن؟ هل يحتاج الشّاعر إلى توقيع الاتحاد كي يصبح شاعراً؟ أم أنّ الاتحاد يحتاج إلى الشّاعر كي يبقى له معنى؟ وإذا كان الجواب هو الثّاني، فلماذا لم يقم اتحاد حقيقيّ على أساس هذا الفهم؟ لماذا لا نعيد التّفكير في النّموذج من أساسه؟ أن ننتقل من فكرة الاتحاد كـ»مؤسّسة رسميّة» إلى شبكة مفتوحة من التّفاعل الثّقافيّ، لا تحتاج إلى مقارّ فخمة ولا إلى انتخابات شكليّة، بل إلى إيمان حقيقيّ بقيمة الصّوت الإبداعيّ.
 
المبدع لا يحتاج إلى كرسيّ في اتحاد، بل إلى كرسيّ في وجدان الناس. ولا يحتاج إلى بيان منسوب إلى لجنة ما، بل إلى قدرة على أن يُحدث أثراً، حتّى لو من خيمة في الهامش. المؤسّسات، إن لم تُعبّر عن قلق المثقّف، ستتحوّل إلى متاحف لتاريخ لا نعرف من كتبه.
 
وربّما لهذا، بقيت روابط المبدعين كائنات رماديّة. ليست عدوّاً، لكنّها ليست حليفاً. ليست باردة، لكنّها ليست ناراً. لا تقدر على أن تكون نقابة، ولا على أن تكون ثورة. تمشي بخطى ثقيلة، على أرض من وهم. ولهذا، بقي المبدع العربيّ حتّى اليوم كائناً فردانيّاً، لا يجد في انتمائه إلا أوراقاً تزيّن السّيرة الذّاتيّة، أو بوابة للمؤتمرات، أو صفة رسميّة تضاف قبل اسمه في مهرجان قد لا يحضره أحد.
 
ربما آن الأوان لنسأل السّؤال الأخطر: ماذا لو اختفينا جميعاً؟ ماذا لو أغلقنا روابطنا، وأحرقنا بياناتنا، ومزّقنا بطاقات عضويتنا؟ هل سيتأثّر الأدب؟ هل ستتوقّف الكتابة؟ هل سيسقط المعنى؟ أم لعلّ الإبداع، في لحظة صمت شاملة، سيستعيد نفسه خارج كلّ مؤسّسة، وسيولد من جديد كما وُلد أوّل مرّة: عارياً، صادقاً، غير قابل للتّدجين؟ لعلّ ذلك هو الحلم الحقيقيّ الذي يستحق أن ننتمي إليه، لا إلى اتحاد لا يحمي، ولا يثور، ولا يكتب إلّا حين يملأ استمارة.
 
في النهاية، قد لا يكون الحلّ في تفكيك هذه الاتحادات، بل في اختراقها بالأسئلة، في جرّها إلى ساحة الحياة بدل قاعة الاجتماعات. فإمّا أن تعود لتكون بيتاً للقلق الجميل، أو أن تبقى –كما هي اليوم– خيمة بلا جدار، يُكتب على أبوابها: هنا يُدفن الإبداع حيّاً، ويُكرَّم في تأبين سنويّ.
 
وربما، حين يسأل التّاريخ: أين كان صوت الكتّاب؟ سيكون الجواب أكثر إيلاماً من الصّمت: لقد كانوا مشغولين بالتّصويت على جدول أعمال جديد، وبإعادة طباعة البطاقة.