الدستور
أنا الموت، مدمّر العوالم- العالم الأمريكي أبنْهيمر بعد اختباره لأول قنبلة نووية.
ورد في كتاب الفتن والملاحم للإمام نُعيم بن حمّاد الخزاعي المتوفّى سنة 228هـ، ضمن الأحاديث الضعيفة التي تتناول نبوءات آخر الزمان، قوله: «وتكون في الشام فتنة يهلك فيها خلق كثير، وتذوب وجوه أقوام بنار تخرج من المشرق». وقد نبّه العلماء إلى أنّ هذا الحديث ضعيف لا يُحتجّ به في مسائل العقيدة أو الغيب، غير أنّ بعض الباحثين المعاصرين أعادوا طرحه في ضوء سيناريو الحرب النووية وما تسببه من ذوبان الجلد والعظام بفعل الحرارة الإشعاعية الهائلة.
في شهر تشرين الأول الماضي، كان من المقرّر أن يلتقي الرئيسان ترامب بوتين في بودابست. غير أنّه قبل موعد الاجتماع، أجرت روسيا اختبارًا لصاروخ جديد يُدعى «بوريفيستنيك»، وتعني «طائر العاصفة» في الفولكلور الروسي، وهو صاروخ يعمل بالطاقة النووية وقادر على حمل رأس نووي. وقد أشرف بوتين بنفسه على التجربة مرتديًا الزي العسكري، وإلى جانبه كبار القادة، وجاء البيان الصحفي في صيغة حوار يتحدث فيه عن مزايا الصاروخ، مؤكدًا أنّه قادر على تجاوز مسافة تتخطى خمسة عشر ألف كيلومتر. وقد وصفه أحد العلماء بأنه «تشيرنوبل طائر»، في إشارة إلى مخاطره الإشعاعية الهائلة.
ولم تكتفِ روسيا بذلك، بل أجرت اختبارين إضافيين لسلاحين نوويين جديدين: غواصة نووية مُسيَّرة وطوربيد نووي خارق. ووفق التصريحات الرسمية، فإنّ الغواصة قادرة على تدمير سواحل كاملة، ويصل مدى حركتها إلى عشرة آلاف كيلومتر. ويهدف بوتين من وراء هذه التجارب المرعبة إلى الضغط على الرئيس ترامب ودفعه للعودة إلى طاولة المفاوضات بشأن أوكرانيا وفق الشروط الروسية، وأعتقد بانه قد نجح في ذلك.
وقد ردّ ترامب على هذه التجارب بتغريدة انفعالية عبر منصة تروث سوشيال قبيل لقائه مع الرئيس الصيني، قال فيها:
«نظرًا لبرامج الاختبار النووي التي تنفذها دول أخرى، فقد وجّهتُ وزارة الحرب لبدء اختبار أسلحتنا النووية على أساس المساواة. ستبدأ هذه العملية فورًا. روسيا في المركز الثاني، والصين متأخرة في الثالث، لكنها ستلحق بنا خلال خمس سنوات».
أثار هذا التصريح عاصفة من الجدل الدولي، إذ بدا وكأنه إعلان عن استئناف التجارب النووية الأمريكية بعد توقف دام عقودًا، ما اعتبره خبراء الأمن النووي تراجعًا خطيرًا عن التزامات الولايات المتحدة في مجال نزع السلاح. وردّ الكرملين على تغريدة ترامب مستندًا إلى الخبير النووي ماثيو بَن من جامعة هارفارد، الذي صرّح لـسي إن إن بأنّ الولايات المتحدة لا تمتلك أكبر ترسانة نووية في العالم، وأنّ الجهة المسؤولة عن أي تجربة نووية ليست وزارة الدفاع، بل وزارة الطاقة.
وتتفق جميع التقارير والتحليلات على أنّ تغريدة ترامب كانت بالغة الخطورة، وأنّ الدعوة إلى استئناف الاختبارات النووية تُعدّ خطأ فادحًا، إذ من شأنها أن تُطلق سلسلة غير منضبطة من التجارب النووية حول العالم، وتُسرّع سباق التسلّح النووي بشكل غير مسبوق. وأعلنت الصين بهدوء أنها ملتزمة بعدم إجراء أي تجارب نووية، داعية الولايات المتحدة إلى احترام اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية التي كانت واشنطن نفسها من أبرز من أسس لها ورعاها.
وإذا ما قامت الولايات المتحدة فعلًا باستئناف التجارب النووية، فسيشكّل ذلك مبرّرًا قويًّا لبقية دول العالم كي تُسرّع تطوير قدراتها النووية، وعلى رأسها الصين. وبطبيعة الحال، ستسارع دول عديدة إلى إجراء تجارب نووية خاصة بها، مما يفتح الباب أمام سباق تسلّح عالمي لا يمكن التكهن بعواقبه. ويقول الخبراء إنّ كوريا الشمالية هي الدولة الوحيدة التي فجّرت قنبلة نووية حقيقية في القرن الحادي والعشرين، وذلك عام 2017، بينما لم تكن بقية التجارب سوى اختبارات لصواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية دون استخدامها فعليًا. ويؤكد المختصون أنّ إجراء تجربة نووية حقيقية يتطلب تحضيرات تمتدّ إلى ثلاث سنوات على الأقل.
إنّ ما يجري اليوم أمرٌ مخيف وخطير. فماذا لو كنّا على أعتاب عودة جديدة لسباق التسلح النووي؟ وماذا لو بدأت الدول فعلًا اختبار أسلحتها الواحد تلو الآخر؟ وماذا لو فشلت إحدى التجارب، أو انحرف صاروخ نووي عن مساره؟ إنّ النتائج ستكون كارثية لا يمكن للعالم احتمالها.
ويبدو أنّ البشرية اليوم تُقاد بذات الغرور الذي كاد أن يفنيها قبل سبعين عامًا في هيروشيما وناغازاكي. يقف العالم مرة أخرى على شفير جنون التنافس النووي، لكن تبقى الحقيقة الثابتة التي لا يجرؤ أحد على إنكارها:
لا منتصر في الحروب النووية.