عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    17-Oct-2020

الكتابة في مواجهة العـدم .. قراءة في تجربة موسى حوامدة الشعرية

 الراي-عمر العـسري

موسى حوامدة واحدٌ من الشعراء العرب المعاصرين الذين وعوا الكتابة باعتبارها شرطا جمالياً، وأيضاً نصراً وتخلصاً من تبعات الخيبة الوجودية. وهو شاعر لا يكتفي بالكتابة للذهاب صوب النص وموضوعه الذي ينفتح على تنويعات في الرؤية، ولا يبقى أسيرَ قضيته التي وإن فكَّر فيها شعراً انفلتت وأبت أن تتأطر، وإنما يكون حريصاً على تأسيس هذه الكتابة التي تتكامل حلقاتها الشعرية عبر تراكم شعري متنوع وخصيب، ولكنه يؤشر، في الآن نفسه، على رؤية تأليفية امتدت من كتابه الشعري الأول "شغب" (1988)، إلى "سأمضي إلى العدم" (2017).
 
قد أكون مخطئاً لو قرنت بدايات موسى حوامدة بديوانه البكر "شغب"، بل ويزداد يقيني في اللابداية عند الشاعر؛ لأنه كان حريصاً على تأسيس الكتابة التي تتكامل حلقاتها الشعرية ليس عبر التراكم فحسب، وإنما تفتح أفقها القبلي في طبيعة الأصول الآتية منها، وأيضاً من خلال التنوع الخصيب الذي ترسيه في كل محطة شعرية.
 
لعلَّ نهر البدايات في تجربة موسى حوامدة الشعرية متعدد المنابع والأصول، وأيضاً لما ينطوي عليه من منظور غير قار، وبنية غير ثابتة، وكتابة تعلو بفكرها التأليفي. فلا مجال لربط الشاعر بقضية وجودية، أو أيديولوجية، لأن الوعي الذي ينطلي على النصوص مؤسس على أسناد معمارية تأليفية جمالية وأسلوبية في آن، يمكن إجمالها في الآتي:
 
- البعد التأليفي والكتاب الشعري: ربما من هنا توجب علينا قراءة أشعار موسى حوامدة دفعة واحدة؛ لأنها متضامّة وحتى لا يضيع الخيط الذي يربطها.
 
- الواقع أبلغ من اللغة: تؤمن تجربة حوامدة بكون اللغة أداة ليست لتسجيل الوقائع، وإنما لابتكار وجود فارق ومكتنز بالمستحيل أحياناً،
 
- المتشابهات التفاعلية: تقترن القصيدة عند حوامدة بالتفاعل كتقنية تبني في ما تؤسسه لرؤية متضامة ومتداخلة، وكأن البنية الرابطة بين الكتب الشعرية تقترن برؤية تفاعلية، قد لا تزيح الرؤية التأليفية أيضاً.
 
- المشهدية الملحمية: كون تجربة حوامدة الشعرية لا تسائل الوجود، ولا ترتهن بالقضايا الجزئية، بل تخلق أفقاً ملحميّاً يتحقق، مبدئياً، من شيئين أساسين: أولا: النفس الشعري والبناء التركيبي. ثانياً: عبر الرؤية الكلية للوجود، وهي رؤية غير تفصيلية في معظمها.
 
- المكان واللامكان: استأثرت تجربة حوامدة بمكون المكان، ليس بأبعاده المادية، كما ألمحنا إلى ذلك، وإنما باعتباره فضاء غير مرئي، ولا حدود له أصلا. هو المكان المبهم الملتبس والمتألق في غيابه من خلال مؤشرات دلالية وثيمية ذات قيمة تأويلية موجهة.
 
يأتي هذا التأطير، في ما ينطوي عليه المنجز الشعري له، والمتمثل في ديوانه الشعري "سأمضي إلى العدم" على وجه التخصيص. ويعد امتداداً شعريّاً مشروعاً للمنابت التي أرساها الشاعر في مدونته السابقة.
 
• الرؤية التأليفية
 
إن مقام التقابل المصرح به في ديوان "سأمضي إلى العدم" كفيل بتمثل الرؤية التأليفية للكتابة الشعرية عند موسى حوامدة، فهو لا يكتب نصوصاً شعرية منجمة ومتباعدة زمنيا ومكانيا، وإنما يدرك تماماً قيمة الكتاب الشعري وما يدل عليه المفهوم. لأن الروح الكتابية والوعي التأليفي حاضران سواء على مستوى النفس الشعري، أو الرؤية الفنية. وهذا ما تحقق وبدا بعداً قرائيا موصلا إلى فكرة الكتاب الشعري.
 
لقد حرص الشاعر على تقديم صور وجودية بلسان منابعها، للتأكيد أنه كان على وعي بها، وأن البعد الاختياري لم يأت صدفة، فهو منذ قصيدة الديوان الأولى "ذاهل عني" يتبين صورة الذات وهي تجابه مصائر مختلفة مع تنويع استخدامات الألم والأمل، وهذا ما أعطى شعره نكهة ممتدة لكنها دينامية تقتات من وضعيات ومشاهد.
 
أربعون قصيدة تنتظم وفق تصور خاص، لا ترهن ذاتها للتنويع الأدائي، وإنما تعضد حضورها بالتآلف الذي حققه التجاور النصي، والوحدة العضوية والرؤيوية. ولنا أن نمثل ببعض المقاطع مستأصلة من الجسم المتماسك للقصيدة. يقول في قصيدة "يساقط حزنا":
 
"يسّاقط حزننا
 
كما تسّاقط أوراق الخريف
 
يزهو الخريف بصفرته
 
وتموت قلوبنا
 
بعيداً عن فصولها".
 
ويقول في قصيدة "نصف الحكمة":
 
"هبيني نصفَ الحكمة
 
ودعيني
 
أسردُ حزني للرصيف".
 
بالانطلاق من المقطعين، سنلحظ أنهما يتشكلان بنائيا من تصميم هندسي شعري وحيد، وهذا يوحي بكون الشاعر يعي تماماً مسألة التأليف النصي والصياغة الشعرية لمنجزه. فالمتحقق في "سأمضي إلى العدم" روابط داخلية وخارجية لا يتم بلوغها إلا عبر فعل القراءة، وكل مقاربة نقدية لمثل هذا الترابط النصي الشعري لا يمكن أن تقف عند حدود كون القصائد مجرد تجميع شعري صوري فقط، وإنما بناء معماري يتسم بترسيخ الدلالة ذاتها ومضاعفتها كما تحقق في المقطعين السابقين، وهما على سبيل التمثيل لا الحصر.
 
لقد تحقق التأليف المبني على التجاور وتعضيد الموضوع الشعري بالترديد المعجمي، وهي تقنية تتطلب ذاكرة تأليفية، لا تكتب النصوص فحسب، وإنما تؤلفها وفق رؤية خاصة، ترى في النص الثاني مناطق الرسوخ للأول، والامتداد للثاني.
 
فمفهوم الحزن في المقطعين داخل في تثبيت مناطق الرسوخ، وفي الآن نفسه تترك مساحة نصية للتذكر، وتعضيد التعالق والترابط النصي الشعري. وهنا تكمن معمارية نصوص "سأمضي إلى العدم"، فهي ليست تقنية فحسب، بل رؤية تأليفية تنتهج مفهوم التصور التفاعلي للنصوص الذي يسمح برصد التجاوب القائم بين قصائد الكتاب الشعري وحدود التفاعل المتحقق بينها وبين كل بنية مستدعاة.
 
• البنيات التخصيبية
 
ثمة منظور مخصَّب ارتآه الشاعر في هذه التجربة التي تتبلور من خلال آليات خِطابية يتداخل فيها منظور الذات الشاعرة برؤى الخراب والخيبة، وتعلو نبرة التمرد والإدانة الحارة بين حطام عالم بعيد ومنهار ومحتشد بفجائعية خاصة. يقول حوامدة في قصيدة "هنيئاً لمن هزموني":
 
"هنيئاً لمن سرقوا ترابي
 
ودنَّسوا طيني
 
وحوَّلوا بلادي إلى جدار وحصار
 
وصادروا طفولتي
 
وغدي
 
ونور عيوني.
 
هنيئاً لكل من عبثوا بي
 
وأوجعوني".
 
إن كلَّ ما يقوله الشاعر يتصف بصفة الرفض أو الإنكار، لأن ضمير المفرد المتكلم في المقطع لا يمثل الذات المتكلمة فحسب، وإنما يستأثر بوعي الألم كأساس العلاقة التي تقرن الشاعر بالحياة. والذات بحسب هذا الاعتبار هي الكائن الوحيد الذي يحس تماماً أنه مظلوم، لذلك وجب منها الاعتراف بالألم أولا، وخشيته ثانياً. وهذا الوعي بالهزيمة قد تبدى في العمل الشعري كمطمح موصل إلى قيمة عليا، وخلاص من تبعات حياة منغصة ورتيبة في الآن نفسه.
 
كما لو أن كيمياء اللغة الشعرية تلزمنا بمجازات خفية، ولكنها تغري الموضوع الشعري حيال وقائع تاريخية مقرونة بالتاريخ الأسطوري للذات، وذات أبعاد متآلفة. إنه أمر مفتعل من قبل الشاعر، لأن قصيدته تحتاج إلى تشخيص خطابي ليتيح فك شفراتها.
 
وعليه، فإن اختلاف الشعر أو كينونته، في هذه التجربة، غير قابل لأي اختزال، لأن الفوارق تزول بارتباطها العضوي بالموضوع، وبكل ما هو آخذ في الاستفحال. لعل المعادلة الشعرية المتحققة هي انجذاب الألم أو ميله إلى الشعر، وليس العكس، فهو يبلغ غايته السقراطية التي اصطلح عليها اللاحالة. حيث الشاعر يسترجع موضوعاً ليس بغاية عرضه، أو خلق مشهدية حوله، وإنما يتحقق التحاق الرؤية الفجائعية وانتسابها إلى الشعر، ومن هنا تتحقق لا حالة الشعر والشاعر، التي تتشكل ببطء في الفكر الذاتي للشاعر، وهو فكر ملتفت إلى التاريخ والأسطورة وغيرهما.
 
تبحث قصيدة موسى حوامدة عن قياس بالنظير لمعطياتها الوجودية، وليس القياس هنا إدراكا لوضع متشابه قائم، وإنما تبني العنصر الخارجي الذي يمكن لذهن قارئ الاطلاع عليه وأن يكشف غمرة ما يمكن رؤيته. وهذا التحقق يماثل الصور التي انتقاها الشاعر لتنتسب إلى الشعر. يقول:
 
"تباركت الخسارات
 
بدأها المسيح
 
وتوّجَها عَلِيّ
 
وأفقدتُها المعنى".
 
هذه المحاكاة تتحول إلى نموذج، الخيال فيها هو الطريدة نفسها، فالمشترك بين المسيح وعلِيَ والشاعر يرسي ما نبحث عنه لشبيه بالخيالات التي سنقبض عليها. كما يمكننا الاقتناع لكون الحقيقة والواقع والتاريخ يبحثون عن أنفسهم في مثل هذا الخطاب، الذي ينتج الحقيقة ومعادلها، أو ينتج حقيقة وواقعها معها وبشكل متجاور. وهي تضطلع بتخصيب المعنى المزدوج للفعل، أي تجعل الواحد موجوداً (الخسارة) بفعل الآخر (المسيح وعلِيّ).
 
وقد تختلف الرؤية الذاتية لثنائية الخيبة والأمل من زاويتي الواقع والمتخيل، فعلى مستوى الواقع يشار إلى الموت باعتباره نهاية قصوى، ومن زاوية التخييل يتم التأمل في الموت كمبدأ أساسي، وامتداد وجودي لحياة أخرى مشروطة بالمصير المجهول. يقول حوامدة في هذا السياق:
 
"أقرّ للهزيمة
 
أمنياتها جديرة بالعسل
 
وطعمها عصيّ على النسيان..
 
مَن يخسر وطنا
 
يسهل عليه كل خُسران
 
باطل كلامي
 
إن تألمت".
 
يعيد الشاعر موسى حوامدة، في هذا المقطع، للخيبة قيمتها الشعرية، ويتمثل البعد الهزائمي بوعي التخلص منه بمعنى النظر إلى الخيبة من زاوية الامتداد الأنطولوجي للإنسان الحامل لقضية وجودية، وهذا الموضوع أقرب إلى الميدان التأملي منه إلى التخييل. وقد راهن الشاعر على لمّ زوايا الخيبة، وبناء خطاب شعري يزاوج التأمل بالتخييل والواقع بالمآل تاركا للمتلقي التفاعل مع صور نعي الحياة والتأسف على ما فات ومشاهد أخرى تعكس إحساساً بالذنب ودحضاً قويّاً للآتي.
 
يطرح العمل الشعري مسألة الكتابة من الخيبة وبها، وعلى الرغم من تعدد المواقف الواصفة لهذه المسألة فإن الشاعر قد استجلى دلالات خاصة في ما تبيّنه من مفهوم المصير والصراع والألم. كما يقرن المصير بأحاسيس تسهم في تبديد صور الندبة أحياناً بين الحق والظلم، وأيضاً رسم حدود التنازع بينهما. وقد عكس الديوان كل هذا وترجمه إلى إحساسين متعالقين: إحساس بالظلم، والثاني إحساس بدنو الآجال. والشاعر في توظيفه هذا كان يصف حركته بانخراط ذاته في أرق التفكير في هذا المصير الفوّار. يقول في قصيدة "كذبت عليك":
 
"كذبت عليك الأقدار
 
كذب المؤرخون والمعلمون
 
وسرقوا بلادك من بين يديك
 
كذبت عليك القابلة
 
ورمتْ حبلك السري في صحن المقبرة".
 
لم يترك هذا المشهد الشعري للحياة العادية أن تبدأ، وتبدل الطبيعي بالحتمي، ولم تبق على إثره حق في ولادة هادئة، وإنما تحول الطبيعي إلى شعور ينتاب الذات حالماً تفتر عن التغيير، وحينها تستعجل مصيرها بمصير عدمي، وتستشرف زمانا معينا ومكانا خاصّاً بغاية، تصوير فداحة أول يوم في حياة الإنسان.
 
إنّ الرؤية المصيرية تجوب فضاءها، وتستقرئ مكنونات الوضع البشري والشيئي، فتسجل تواجداً كليا للموت والألم والتيه والعصيان وسوء الأحلام والوجع والقدر والهزيمة والخديعة.. ليس هناك إقصاء لمعجم الألم، وإنما تشييد عالِم لمصير الذات الصاعدة. ليس صعوداً فيزيقيّاً، بل ما تصدره القصيدة من صوت شعري محلق يشبّك النص ويشتبك به، ويعيد العالم إلى مُشابه له، ليس كتشكيل مألوف لمشاهد خاصة، وإنما كانبثاق ونداء متخف من كل تحديد.
 
• النفس الملحمي
 
توقفنا قصائد "سأمضي إلى العدم" على حقيقة أنها تتمتع بألق جمعي، فهي لا تقتصر بتوصيف الواقع، ولا تعلي من قيمة الوجود، ولا توطد العلاقات الإنسانية، ولا تكشف عن رؤية أحادية، ولا تصنع أفقا حياتيا جديدا يكون سبيل كل واحد.
 
إنها نصوص ذات طاقة داخلية تصنع للوقائع والقضايا والعناصر والأشياء وجودا في اللغة، وإقامة غير مكيفة في الجملة الشعرية. كل جملة في "سأمضي إلى العدم" تتكلم لغة تنتهك فينا حقيقة حياتية، وتخرب صور الأشياء في ذاكرتنا. وتحررنا من يقين خيالاتنا، ومن خرافة واقعنا. إنها جملة أدائية نقية مرنة ترسم الوجود بعيداً عن التأنق والتطريز. كما تؤمن بالوجود عاريا، وبالحياة سافرة، تنزع عن حياتنا لباسها بشكل أو بآخر. يقول الشاعر في قصيدة "ثقيلة أيامي":
 
"ثقيلة أيامي
 
مثل صخرة في جبال الخليل
 
وخفيفة أحلامي
 
مثل غيمة في رام الله".
 
إنها صورة شعرية تستفز قارئها وتعبث به لأنها كما قال أوكتافيو باث مرة «لا تملك بداية ونهاية فقط، بل لديها مدى زمني أيضاً».
 
لقد استأثر بالجملة الشعرية أداؤها الكلي عبر موجهات تتمثل الغربة والخيبة بتخصيص فعليّ مساند لدعم الصورة الشعرية. ووجّه الأسلوبُ المشابهاتي الجملةَ الشعرية، وسلك عبر موجهات (الأداة والفعل) إلى مسار الخيبة والإدانة عبر تخصيص تركيبي، وتقطيع شعري. وبقي الإثبات مقرونا بالمناجاة، وهذا تحديد يدعونا إلى تبين مدخل آخر في شعر موسى حوامدة، هو النفس الملحمي الذي يعدّ خصيصة يمنح للشاعر راحة نفسية للتعبير عن الوقائع والحالات ضمن سياق شعري إيحائي بامتياز، يسهم بدوره في تخليص الكتابة من حركتها الصاعدة إلى أخرى نازلة لا ترى العالم كجغرافيات قارية، وإنما كأرخبيلات موزعة، أو كما أسماه "إدوار غليسان": "الفكر الأرخبيلي"، لأن شعر موسى حوامدة ينجذب إلى مكنونات وأسرار النفس البشرية في تمثلها الحسي وإحساسها المفرط بالمكان، لا تعيقه اللغة التي بها يشيد عالماً مكانيا ملحمياً ينساق لفلسفة الوجود.
 
الجليل ورام الله والخليل أرخبيلات فلسطينية يوظفها الشاعر ليس كأمكنة واقعية، وإنما من خلالها ينصت إلى الذات والعالم وتفاعلهما الوجودي. بل، أبعد من ذلك، يوظفها في بناء دلالي ضامناً للأداء الجمالي في حواره مع الخطابات العليا، منحازاً إلى المباشرة ليس كشرط، وإنما كموتيف يهيئ القارئ للتفاعل الممكن.
 
لا يكتب موسى حوامدة عن الخيبة، بل عن الإنسان في خيبته، ولا يكتب تاريخ الألم، بل تاريخ الإحساس به، فهو شاعر يؤرخ لوجود مرتبط بأناه من جهة، ولوضعية غيرية تجد صداها في المعطى الذاتي من جهة أخرى. إنه يتبين وضعية الإنسان، ويتأملها وهي على شفير العدم.
 
الكتابة الشعرية بهذه الرؤية والمنطلقات تتأسس على مبدأ الانخراط من جانبين: الأول رسم مشاهد وألوان الخيبة، وثانياً تنويع الأداء الشعري المتجه صوب سرد الرؤى والمواقف. وبينهما تتكشف الحمولات الدلالية للمصائر المفجوعة، ولصور الفراغ والتيه التي تكابدها الذات في المقام الأول. ومن كل هذا ستبقى الصورة الشعرية المستفيدة من هذا التألق ولو من داخل الفجيعة.
 
إن قصيدة حوامدة، إذا نظرنا إليها بوصفها إشارة جمالية، تمقت الخداع في الكتابة، وترهن مسارها نحو تعظيم الوقائع البسيطة بشواهد حجاجية تاريخية وأسطورية، وكأن الكتابة تواجه العدم استعداداً للاعتراف به بدل أن تجعله حدثا نهائيا. وإذا ما أمعنّا النظر فيها، فإنها تقنعنا بأن الإحساس الذي ينتاب الشاعر لا يمكن إلا أن يكون صادقا ومنزهاً عن الافتعال والنسج على المنوال.
 
وبذلك تكون الكتابة الشعرية في "سأمضي إلى العدم" بناء البناء، لا تتخلى عن قوة حضور الذات الشاعرة التي تغدو أفقا صاعدا، وهذا المسلك يزاوج بين بناء الذات وتمثل العالم في كليته حسب شريعة الكتابة الشعرية المواجهة.
 
ثمة قصائد في الديوان تأملت العالم والإنسان وجعلت منهما معجماً فريداً، كما جعلت الشاعر يتحدث بلغات الوجود التي تمتح من امتدادات الإنسان فيه. يقول في قصيدة "كأني آدم":
 
"أمضي إلى النهار
 
بنجوم الليل
 
أمضي إلى الليل
 
مغمض العينين
 
كأني آدم الجديد
 
يتحسس آلام الأرض
 
يرثي للسلالة هزيمة الشيطان وانتصار الخراب.
 
أمضي إلى الندم
 
بخُطا ملك
 
أمضي على الجحيم
 
برفقة السوسن
 
زادي الوحيد خيال مريض
 
يشفع للغياب
 
يتقمص دور البطل
 
يرسل ميدوزا للجنة
 
وجلجامش إلى حانة الموتى".
 
في المقطع السابق، نجد الشاعر مراوحاً بين زمنين، ومكتفياً بالمضي وحيداً محفوفا بأعلام تراثية دينية وأسطورية، وفي هذه الرحلة يتعمق الاغتراب الوجودي، ويستشري الخيال الجامح. وبينهما تتوضح النتيجة (الجنة/ الموت). ولم تتوقف فاعلية القصيدة إلا عند الاقتضاء التشبيهي (كأني آدم) لتصوغ تحوّلا، أعتقد أن حوامدة كان سباقا في التدليل على هذه العودة التي أصبحت مؤخراً توشيةً علاماتية ونصّيّة في كثير من التجارب.
 
في ديوان "سأمضي إلى العدم" اعتمد موسى حوامدة في منجزه الشعري على ثلاثة أسناد مهمة:
 
1. الرؤية التأليفية: وهو عمق كتابي كان أحد الخصيصات الكتابية التي واجه بها الشاعر فكره الشعري.
 
2. البنيات التخصيبية: وكما هي واضحة في الديوان، توحي بأن القصيدة عند الشاعر فعالية تمثيلية، وقوة حجاجية انتقت معجماً يزاوج في الصورة الواحدة بين قضايا وجودية، ومنطلقاتها الكلية.
 
3. النفس الملحمي: وذلك بتجريب النموذج البشري المتكلم والمخاطب الدالّ على المحاكاة الشاهدة.