عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Oct-2021

تأثير أوروبا والغرب في الشرق، من مصر والجزائر إلى تركيا وإيران

 الغد-ألكسندر ميكابريدزي* – (موقع قنطرة) 5/9/2021

 
كان غزو نابليون بونابرت لمصر في العام 1798 أول محاولة حديثة لدمج المجتمع الإسلامي في إطار أوروبي، ورغم إخفاقه العسكري الذريع، فقد ترك إرثا دائما بالمنطقة، إذ دفع الحكومات المصرية والعثمانية والإيرانية إلى التدخل أكثر في حياة رعاياها اليومية وتشكيل إداراتها وجيوشها على الطريقة الأوروبية.
 
* *
إرث نابليون بونابرت “الأبدي” في الشرق
“في البدايةِ كان نابليون” -هكذا استهلّ الراحل، توماس نيبردي، كتابه الشهير “ألمانيا من نابليون إلى بسمارك” حولَ تاريخ ألمانيا في القرنِ التاسع عشر. ولكن على الرغم من أنّ نيبردي كان يشيرُ إلى الدورِ المركزي لنابليون بونابرت في إنشاءِ أوروبا الحديثة، فإنّ كلامه ينطبقُ أيضاً، من نواحٍ عديدةٍ، على الشرقِ الأوسطِ الحالي.
كان غزو نابليون بونابرت لمصر في العامِ 1798 بمثابةِ المثال الأول لليبرالية الإمبريالية، وسلّط الضوءَ على السرعة التي تجاوزت بها الثورةُ الفرنسيةُ حدودَ فرنسا -وأوروبا. وعلى الرغم من أنّ الحملة كانت عبارةً عن فشلٍ عسكري ذريعٍ، إلا أنها خلّفت إرثاً دائماً في المنطقةِ.
أدواتُ السيطرة الغربية
بداية، مثّل الغزو المحاولة الحديثة الأولى لدمجِ المجتمعِ الإسلامي في الإطارِ الأوروبي، كما شكّل اللحظةَ التكوينيةَ لخطاب الاستشراق، حين التقت كل مكوناته الأيديولوجية واستُخدِمت ترسانةٌ كاملةٌ من أدوات الهيمنة الغربية لحمايته.
لم يفعل الاحتلال بحدّ ذاته شيئاً يُذكرُ لتحديثِ المجتمعِ المصري، لأنّ المبادئ الثورية التي حاولَ الفرنسيونَ تقديمها كانت شديدة الراديكالية وأجنبية للغاية، ولاقت مقاومةً محليةً حازمةً.
غير أنّ نابليون خلق فراغاً سياسياً في مصر سرعانَ ما ملأه محمد علي باشا، الذي بدأ خلال عقدٍ بعد رحيلِ الفرنسيين في إرساءِ أسس مصر الخاضعة للإصلاحِ والتحديث، والتي لعبت لاحقاً دوراً مهماً للغايةِ في الشرقِ الأوسطِ.
كما قلبت حملةُ نابليون المصرية السياسات الأوروبية التقليدية تجاه المنطقةِ. فبدلاً من توجيه ضربتها المُزمَعة إلى القوةِ الإمبرياليةِ البريطانيةِ، دفع الغزو الفرنسي الإمبراطوريةَ العثمانيةَ -الحليف التقليدي لفرنسا- إلى عقد تحالفٍ مع خصمتيها السابقتين روسيا وبريطانيا، وغيّر طبيعةَ التنافسِ الفرنسي-البريطاني في الشرقِ.
وحتى تلك اللحظةِ، كانت فرنسا تقليدياً قد شنّت غزواتٍ على الهندِ من قواعدها في جزرِ المحيطِ الهندي، معتمدةً على القوةِ البحريةِ التي كان من شأن البريطانيين مواجهتها بأسطولهم الخاص. بيدَ أنّ محاولةَ نابليون احتلالَ مصر برياً غيّرت هذه المعادلةَ تغييراً كبيراً من خلال إجبارِ بريطانيا على أن تأخذ بعينِ الاعتبارِ أيضاً، إمكانية توجّهِ قوى أخرى إلى الهند عبر الأراضي المجاورة لشبهِ القارةِ الهنديةِ.
وهذا ما دفعَ بريطانيا إلى السعي بشكل دائمٍ لتأمينِ المزيدِ من أراضي دول الدومينيون (المستقلة ذاتيا والتابعة للسيادة البريطانية) من أجل حمايةِ ممتلكاتها الهنديةِ من أي هجومٍ بري. وكما علّق مسؤولو شركة الهند الشرقيةِ البريطانية في العام 1798: “لقد كسبنا إمبراطورية بالقوةِ المسلحةِ، وينبغي أن تستمر بالاعتمادِ على القوةِ المسلحةِ، وإلا فستسقط بالأساليبِ ذاتها أمام قوةٍ متفوقةٍ”. وقد عزّزَ هذا الاعتمادُ على القوةِ الراجَ البريطاني (الحكم البريطاني في الهندِ) حتى العام 1947 ودعم التدخلات البريطانية في مصر واليمن وعُمان وإيران وأفغانستان.
“المسألة الشرقية”
أثّرت الحروبُ النابليونية الأوسع تأثيراً كبيراً في المعقلِ الإسلامي. وبالرغمِ من أنّها ذات طبيعةٍ أوروبيةٍ في الأساسِ، إلا أنّها صاغت علاقةَ أوروبا مع العالمِ الإسلامي للقرن التالي. إذ لم تجد الإمبراطوريةُ العثمانيةُ نفسها هدفاً للطموحاتِ الإمبرياليةِ الروسيةِ فحسب، ولكن أيضاً للمخططاتِ البريطانيةِ والنمساويةِ والفرنسيةِ التي أسهمت في استمرارِ خسائرها الإقليميةِ وظهورِ “المسألةِ الشرقيةِ”. وإضافةً إلى ذلك، فإنّ أوجه التشابه بين أساليب -وخطاب- نابليون وبين تلك المستخدمة في التدخلاتِ الغربية -في القرنِ العشرين في الشرقِ الأوسط- تؤكّدُ التأثير طويلِ الأمدِ لإرثه.
في الأعوام 1810-1812، وقبل قرن من ظهورِ “لورنس العرب”، كان وكلاء نابليون يسعون إلى تشجيعِ القبائل العربية في سورية والعراق على التوحّدِ في ثورة ضد العثمانيين. ولاحقاً حقّقت الحكوماتُ الفرنسيةُ رؤيةَ نابليون بإمبراطوريةٍ استعماريةٍ فرنسيةٍ.
في العام 1830، اجتاحت القواتُ الفرنسيةُ -بمن فيها مقاتلون من قدامى المحاربين في الحملةِ المصريةِ- الجزائرَ العاصمة انطلاقاً من خططِ الطوارئ التي وُضِعت في عهدِ نابليون قبل عقدين من الزمنِ، وأرست الأساس لفترةٍ من الحكمِ الاستعماري الفرنسي دامت حتى العام 1962.
كما تحمّلت إيران -التي باتت إمبراطوريتها شيئاً من الماضي- مصيراً مؤلماً بالقدرِ ذاته، فأصبحت بيدقاً مرهونًا في أيدي القوى الأوروبية. وعانت إيران -التي خُدِعت من قبل كل من فرنسا وبريطانيا- هزائم مذلّة على يد روسيا، التي حصلت على جورجيا وجنوب شرق القوقاز بحلولِ العام 1813 وحلّت محلّ النفوذِ الإيراني في المنطقةِ بشكلٍ كاملٍ تقريباً.
وكشفت الحروبُ النابليونية عن أوجهِ قصورٍ واضحةٍ في الدولتين العثمانيةِ والإيرانيةِ، كما سلّطت الضوءَ على اختلالِ التوازن الاقتصادي والعسكري المتزايد بينهما وبين القوى الأوروبية الرائدة.
وهكذا كانت الحروب إيذاناً ببدءِ عصرِ الإصلاحات التي ترعاها الدولةُ، إذ سعى الزعماءُ السياسيون العثمانيون والمصريون والإيرانيون إلى إعادةِ تشكيلِ إداراتهم وجيوشهم بصورةٍ أوروبيةٍ.
إصلاحاتٌ متأثرةٌ بالغربِ تتحدى الوضع الإسلامي القائم
وهنا تكمنُ واحدة من أكثر التركات النابليونيةِ ديمومةً في الشرقِ الأوسطِ. لم يناقش الحكامُ ذوو العقليةِ الإصلاحيةِ -مثل السلطان العثماني محمود الثاني ومحمد علي في مصر وولي عهد إيران الأمير عباس ميرزا- المعاييرَ الثقافية أو الهياكلَ الإنشائية التي يرتكزُ عليها النظامُ التقليدي.
وبدلاً من ذلك، اعتقدوا أنّ الإصلاحات العسكرية والإدارية على النمطِ الأوروبي ستمكّنهم من ترسيخ سلطتهم المحلية وحمايةِ دولهم من التهديداتِ الخارجيةِ بفعاليةٍ أكبر.
بيدَ أنّ هذه الإصلاحات تطلّبت إدخالَ الممارسات الغربية إلى المجتمعاتِ الإسلاميةِ وفرضت تحديات على هياكلِ السلطةِ القائمة، لأنها أدخلت الحكومةَ المركزيةَ في الحياة اليومية لرعاياها بشكلٍ أكثر مباشرة وعلى نطاقٍ أوسع من أي وقتٍ مضى.
ولهذه السببِ، فإنّ العديد من المجموعات -بمن فيها علماء الدين والسعوديون في وسطِ شبه الجزيرةِ العربيةِ والانكشاريون العثمانيون والنخبُ التقليديةُ في إيران- أبدت ردَّ فعل سلبياً للغايةِ، فرفضت حتى تلك التغييرات التحديثية التي كان من الممكن أن توفّر حمايةً أفضلَ لدولها. وأصبح يُنظرُ بشكلٍ متزايدٍ إلى هذه المواجهة على أنها نزاع من أجلِ جوهرِ الطريقةِ الإسلاميةِ في الحياةِ. وما تزال آثارها العميقة -إضافةً إلى جوانب أخرى من إرثِ نابليون- تتردّدُ أصداؤها إلى اليومِ في الشرقِ الأوسط.
*محام ومؤلف ومؤرخ جورجي متخصص في دراسات نابليون. وهو أستاذ كامل للتاريخ والعلوم الاجتماعية في جامعة ولاية لويزيانا في شريفبورت، حيث يشغل كرسي روث هيرينغ نويل الممنوح لرعاية مجموعة جيمس سميث نويل، وهي واحدة من أكبر المجموعات الخاصة للكتب والمطبوعات والخرائط الأثرية في الولايات المتحدة الأميركية.