عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    17-Aug-2025

المؤثرون وصناعة التفاهة: حين يتحول الفضاء الرقمي إلى مصنع للتعفن الدماغي

 الغد- إسراء الردايدة

حين فتحت وسائل التواصل الاجتماعي أبوابها على مصراعيها، بدت وكأنها نافذة واسعة على العالم، تتيح لكل فرد أن يعبّر عن نفسه، وأن يشارك الآخرين أفكاره وخبراته، وأن يبني جسوراً من المعرفة والتواصل تتخطى الحدود الجغرافية والثقافية.
 
 
 
 
في السنوات الأولى لانتشارها، كان التفاؤل طاغياً: ها هي الفرصة التاريخية لكسر احتكار الإعلام التقليدي، ولإعطاء صوت لمن لم يكن له صوت من قبل.
 
لكن، ومع مرور الوقت، بدأ الوجه الآخر لهذه المنصات يتكشف؛ حيث صعد على السطح نوع جديد من “المؤثرين” الذين لا يقدّمون محتوى حقيقياً أو قيمة فكرية أو معرفية، بل يكتفون بتسويق حياتهم الشخصية كمنتج استهلاكي مليء بالاستعراض السطحي، حتى غدت الثقافة الرقمية في كثير من جوانبها ساحة للتفاهة بدلاً من أن تكون منبراً للفكر والإبداع.
 
 
في جوهر المعنى، المؤثر هو الشخص القادر على إحداث تغيير في آراء الناس أو سلوكياتهم أو خياراتهم من خلال ما يقدّمه من معرفة أو خبرة أو رؤية.
 
 
 
المؤثر الحقيقي ليس بالضرورة الأكثر متابعة أو الأكثر ظهوراً على الشاشات الصغيرة، بل هو الذي يمتلك مصداقية مبنية على خبرة عملية أو علمية أو فنية، ويقدّم محتوى يضيف للمتابع لا يستهلكه فقط.
 
لكن ما نراه اليوم هو تشويش في المفهوم؛ إذ يُطلَق لقب “المؤثر” على أي شخص يملك عدداً كبيراً من المتابعين، حتى وإن كان محتواه لا يتعدى عرض الملابس، أو تصوير رحلات سياحية، أو مشاركة تفاصيل حياتية لا قيمة معرفية لها. هذا الخلط بين الشهرة والتأثير هو أحد أسباب تدني الوعي الجمعي، لأنه يمنح الأولوية للسطح على حساب الجوهر.
 
 
ثقافة الاستعراض: الجسد والمال والسفر
 
جزء كبير من نجومية هؤلاء المؤثرين الزائفين قائم على ما يمكن تسميته بـ “ثقافة الاستعراض”. الجسد الممشوق، الصور في المنتجعات الفاخرة، السيارات الباهظة، الملابس من العلامات التجارية العالمية، والمطاعم ذات الأسعار الخيالية... كلها أدوات لبناء صورة مثالية زائفة لحياة مترفة لا يعيشها معظم الناس.
 
وما يزيد الأمر خطورة هو أن هذه الصورة تُباع للمتابعين على أنها “نجاح” يجب السعي نحوه، ما يخلق شعوراً دائماً بالنقص لدى الجمهور، ويدفعهم إلى ملاحقة معايير استهلاكية غير واقعية، بدلًا من تحفيزهم على تحقيق إنجازات حقيقية في حياتهم الشخصية والمهنية.
 
يتذرع بعض هؤلاء المؤثرين بمفهوم “الحرية الشخصية” لتبرير أي نوع من المحتوى، حتى لو كان يروّج لأسلوب حياة يتعارض مع قيم المجتمع أو معايير الحشمة أو يطبع سلوكيات مرفوضة.
 
المشكلة ليست في الحرية بحد ذاتها، بل في تحويلها إلى ذريعة لفرض ثقافة جديدة مشبعة بالسطحية على جمهور واسع، من بينهم مراهقون وشباب في مرحلة تشكيل هويتهم وقيمهم.
 
 
ففي قلب مشهد السوشال ميديا اليوم، يتضخم هوس جماعي بكل ما يلمع، وكأن البريق وحده دليل على القيمة. يلهث كثيرون وراء صور مصقولة بعناية، يظنون أن أصحابها يعيشون الحياة المثالية التي نحلم بها: المال الوفير، السفر المستمر، الجسد المثالي، والماركات العالمية.
 
 
لكن خلف هذه الواجهة المبهرة تختبئ حقيقة مختلفة تماماً، فالكثير مما نراه ليس إلا “دهشة كاذبة” تُصنع بإتقان لتبيع الوهم، لا لتعكس الواقع. إنها سطحيّة تُغري العين وتُخدّر العقل، تجعلنا نقيس النجاح بما نمتلكه لا بما نحققه، وتربط أحلامنا بأشخاص يعيشون على استعراض حياتهم أكثر من عيشها فعلًا.
 
إن الحرية الحقيقية لا تعني غياب الضوابط الأخلاقية، ولا تعني نشر صور وأفكار من شأنها أن تُضعف وعي الأجيال القادمة، بل هي التزام بمسؤولية الكلمة والصورة وأثرهما.
 
إحدى أخطر الظواهر المرتبطة بالمؤثرين السطحيين هي الترويج لمنتجات وخدمات غير مدعومة بأي إثبات علمي أو طبي. تجد مؤثراً يعلن عن مكمل غذائي يدّعي علاج أمراض، أو كريم تجميل يَعِد بنتائج خارقة، دون أن يمتلك أدنى خلفية علمية تؤهله لإعطاء هذه التوصيات.
 
هذا النوع من الإعلانات ليس مجرد “تسويق” بل هو تضليل قد يضر بصحة المستهلك أو ماله.
 
 
 
هنا تتضح أهمية أن يكون هناك فرق واضح بين "المؤثر" و"الخبير". الخبير يتحدث من منطلق علمي وتجربة مهنية، بينما المؤثر الذي يتبنى أي منتج مقابل أجر مالي يضع الربح فوق المصداقية.
 
 
التعفن الدماغي: كيف تقتل التفاهة عقولنا؟
 
المصطلح قد يبدو قاسياً، لكن “التعفن الدماغي” هو توصيف دقيق لحالة الانحدار الفكري التي تصيب المتابعين حين يستهلكون يومياً جرعات كبيرة من المحتوى السطحي.
 
 
الدماغ، مثل أي عضو آخر، يتأثر بما يتغذى عليه. فإذا كان غذاؤه اليومي مكوّناً من صور معدّلة وفيديوهات فارغة ورسائل استهلاكية، فإن قدرته على التفكير النقدي والتحليل تقل تدريجياً.
 
بدلًا من استغلال وسائل التواصل للوصول إلى مصادر المعرفة والإبداع، أصبح جزء كبير من الجمهور يستهلك وقته في متابعة أخبار “من سافر وأين، ومن اشترى ماذا، ومن ارتدى ماذا”، وكأن هذه هي القضايا المحورية في الحياة.
 
لا يعني النقد الموجه للمؤثرين السطحيين أن وسائل التواصل الاجتماعي شر مطلق، بل العكس تماماً. فهي لا تزال واحدة من أقوى أدوات العصر في نشر الوعي، وتبادل المعرفة، وربط المجتمعات، وإعطاء الفرصة للمبدعين الحقيقيين للوصول إلى جمهورهم.
 
لكن الفرق بين الأثر الإيجابي والسلبي يكمن في وعي المستخدم. حين يدرك الفرد أن كل ما يراه على هذه المنصات ليس بالضرورة حقيقيًا أو مفيدًا، يصبح قادرًا على الاختيار الواعي لما يتابعه، وعلى تنويع مصادره بين الترفيه الهادف والمحتوى المعرفي.
 
 
 
الترفيه الراقي... ضرورة لا ترف
 
ولا أحد ينكر حاجة الإنسان للترفيه، فهو جزء من التوازن النفسي والعاطفي. لكن الترفيه لا يعني بالضرورة الانحدار إلى محتوى تافه أو مبتذل.
 
 
هناك آلاف النماذج العالمية والعربية التي تقدم ترفيهًا ممتعاً وراقياً، يجمع بين الفائدة والمتعة، ويمنح المتلقي تجربة ثقافية وفنية تضيف له.
 
 
الإشكال هو أن المحتوى الرديء غالبًا ما يكون أسهل إنتاجاً وأسرع انتشاراً، ما يجعل المنافسة أصعب على صانعي المحتوى الجادين. لكن الحل لا يكون في الاستسلام، بل في دعم وتشجيع النماذج المضيئة، ونشرها بين الأصدقاء والعائلة، بدلًا من الاكتفاء بالنقد السلبي.
 
ظاهرة المؤثرين السطحيين ليست قدراً محتوماً، بل نتيجة مباشرة لاختياراتنا كمستخدمين. نحن من نصنع شهرتهم بمشاهداتنا وتعليقاتنا وتفاعلاتنا، ونحن من نمنحهم القدرة على تشكيل الذوق العام.
 
 
 
إذا أردنا أن نستعيد المعنى الإيجابي للتأثير، فعلينا أن نعيد تعريف النجاح في الفضاء الرقمي، وأن ندعم المحتوى الذي يثري العقول لا الذي يستهلكها.
 
وسائل التواصل الاجتماعي أداة، والأداة في حد ذاتها لا خير فيها ولا شر، إنما قيمتها في اليد التي تستخدمها والعقل الذي يوجهها.
 
 
 
وبين يدينا الآن فرصة لصناعة فضاء رقمي أكثر وعياً، يوازن بين الترفيه الراقي، والمحتوى المعرفي، والتأثير الحقيقي الذي يترك بصمة إيجابية في حياة الناس.