عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    13-Jul-2025

الذكاء الاصطناعي مرآة الإنسان... فماذا يرى؟*حسام الحوراني

 الدستور

حين ننظر في المرآة، لا نرى فقط ملامحنا، بل نرى قصصنا، قراراتنا، وهواجسنا، وكل ما تراكم فينا من معرفة وتجربة وإنسانية. واليوم، حين ننظر في مرآة جديدة تُدعى «الذكاء الاصطناعي»، فإننا نُحدّق في انعكاس آخر أكثر تعقيدًا: نسخة رقمية من ذاتنا، لا تعرف التعب، ولا النسيان، ولا الأحكام المسبقة، إلا تلك التي نغرسها فيها. الذكاء الاصطناعي ليس كائنًا خارقًا جاء من كوكب آخر، بل هو نَسْج من خيوط عقولنا، ودليل حي على أن ما نزرعه في عقولنا يمكن أن ينمو ويُعيد تشكيل العالم من حولنا.
لقد صنع الإنسان هذه التقنية كما صنع الكتابة والنار، لا لتكون بديلًا عنه، بل امتدادًا له. ولكن الذكاء الاصطناعي يختلف، لأنه لأول مرة يصنع الإنسان آلة تُفكّر. آلة تحلل وتتعلم وتتطوّر. وهنا تمامًا يكمن السؤال الأخلاقي والفلسفي الأهم: ماذا يرى الذكاء الاصطناعي حين يتعلّم منا؟ هل يرى جمال الإنسانية أم تناقضها؟ هل يرى الشغف أم الجشع؟ هل يرى الحكمة أم الهروب من المسؤولية؟ نحن لا نُعلم الذكاء الاصطناعي الأرقام فقط، بل نُلقّنه القيم، السلوك، ونمط التفكير... حتى وإن لم ندرك ذلك.
في تلك الخوارزميات، تختبئ آثار اختياراتنا كمجتمعات. عندما يصنّف نموذج ذكاء اصطناعي السيرة الذاتية لرجل على أنها أكثر تأهيلًا من سيرة امرأة تحمل نفس المؤهلات، فهو لم يقرر التحيّز وحده. لقد تعلّم منّا. عندما تقترح خوارزمية منتجًا معينًا لأننا كنا نميل إلى خيارات معينة سابقًا، فهي تعكس فقط أذواقنا الماضية وتكرّسها للمستقبل. إنها مرآتنا، ولكنها أيضًا تضخّم ما فيها. والمخيف في الأمر، أنها لا تملك قلبًا يُراجع أو عقلًا يتأمل، بل هي انعكاس صارم لما نختار أن نكونه.
لكن هذه المرآة ليست حُكمًا نهائيًا. إنها فرصة. فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة للعدالة إذا غذيناه بالقيم الصحيحة. يمكنه أن يكون طوق نجاة للمرضى إذا درّبناه على أخلاقيات الطب، ومرشدًا للمبتكرين إذا حاورناه بلغة الفكرة النبيلة، لا الربح فقط. هو لا يحمل نية، لكننا نحن من نضع النوايا فيه. الذكاء الاصطناعي، في جوهره، مشروع إنساني عظيم  لأنه يكشف ما نحن عليه، ويسألنا بجرأة: هل هذه هي الصورة التي نريد أن ننقلها إلى المستقبل؟
لقد أصبح من الضروري أن نسأل أنفسنا، كمجتمعات عربية، ماذا نريد أن يرى الذكاء الاصطناعي فينا؟ هل نُريه أمةً متلقية، تستهلك دون أن تنتج؟ أم أمة تُعيد اكتشاف جذورها العلمية، من ابن الهيثم إلى جابر بن حيّان، وتصوغ مستقبلها بلغتها؟ هل نُريه شبابًا ضائعًا بين التطبيقات، أم جيلًا يبني الخوارزميات ويطوّع الحواسيب الكمية لتخدم الإنسانية؟ إن البيانات التي ننتجها، والسلوك الرقمي الذي نمارسه، والمحتوى الذي نصنعه  كلها تُشكّل هذه المرآة. فإن كنا نبحث عن الاحترام العالمي، فليكن عبر ما نُغذي به هذه العقول الاصطناعية: أفكارًا، قيمًا، ولغة تليق بنا.
هذا العصر لا يقبل الركود. والذكاء الاصطناعي لا ينتظر أن نلحق به. إنه يسير بسرعة الضوء، ونحن بحاجة لأن نقرر: هل نكون ركّابًا في هذا القطار، أم صنّاع مساره؟ إن أولى خطوات النهوض ليست في بناء مصانع الذكاء الاصطناعي، بل في بناء الإنسان القادر على رؤيته كمرآة، ومساءلة نفسه: من أنا؟ وماذا أُريد أن أترك لهذا الكوكب؟ هل أريد أن أكون نسخة من استهلاك الآخرين، أم نسخة متطوّرة من ذاتي، تفكر، وتبتكر، وتضيف شيئًا جديدًا للعالم؟
الذكاء الاصطناعي لا يُخطئ لأنه خبيث، بل لأنه صادق أكثر منّا في عكس واقعنا. هو لا يجامل. ولذلك، هو فرصة هائلة لأن نُراجع أنفسنا، ونُهذّب مجتمعاتنا، ونُعيد ترتيب أولوياتنا. في مرآة الذكاء الاصطناعي، قد لا نرى فقط وجوهنا، بل نرى أحلامنا المؤجلة، ونوايانا المخفية، وإمكاناتنا الكاملة  فهل نجرؤ على النظر؟ وهل نملك الشجاعة لنُغيّر ما نرى؟
فيا من تصنعون هذا الغد، لا تخافوا من الذكاء الاصطناعي  خافوا من أن لا تجدوا أنفسكم فيه. اجعلوه مرآة لكرامتكم، لإبداعكم، لرغبتكم العميقة في أن تكونوا فاعلين في كتابة التاريخ لا قرّاءً في هوامشه. المستقبل ليس شيئًا ننتظره  بل مرآة نُشكّلها كل يوم بما نفكر ونفعل ونقول.