عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    29-Mar-2023

رولان بارت… بين لذة النص وموت المؤلف

 القدس العربي-إسماعيل كرك

ليس هناك شك في أن للقراءة لذّةً لا يوجد سبب يدعو لإنكارها أو تغييبها، وعلى الرغم من أن الكثيرين يتذرعون بأن هذه اللّذةَ حكرٌ على النُخبويين، فما يزال هناك اختلاف وتمايز بين اللّذات مع استثناء لعنة «الليبيدو» الفرويدية. عبر العصور احتلتْ قيم وكواليس الفن البورجوازي خيالاتنا وقسَّمتْ اللذة إلى كانتونات لا يمكن لنا التعبير عنها إلا ضمن حَرَم هاتيك الكانتونات، خصوصاً تلك التي تصف فن الحياة والاستعداد للموت وفقاً لمفاهيم المجتمعات البشرية.
حسبما جاء في كتابه «لذة النص» يتحدث رولان بارت عن أقانيم ثلاثة تشكِّل الطريق التي تقود إلى اللذة وهي: مفهوم النص ومفهوم الكتابة ومفهوم القارئ، لكنْ ربما يكون ما توصَّلَ إليه بارت ليس جديداً بكل معنى الكلمة مقارنةً بما ورد في بعض المراجع العربية كنظرية النظم عند الجرجاني، والملامح النقدية عند القرجاني وابن الأثير الموصلي، لكنَّ الجديد الذي يقدمه بارت هو إعادة قراءة معنى النص. ويكاد يكون أسلوب المسرحي والأديب الألماني برتولت بريخت مفتاحاً اعتمد عليه بارت للولوج ولو نظرياً إلى المعاني المتناثرة للّذة. فمن خلال بطل مسرحية «رجل برجل» يتقمص بارت شخصية بطل مسرحية» كالي كاي» الذي كان ذاهباً ليشتري سمكاً ليلتقي بدورية عسكرية فَقدتْ أحد أفرادها الأربعة، وكان يجب على عناصر الدورية أن يعثروا على شخص آخر يحل مكانه وبسرعة فائقة ليتجنبوا ثورة وغضب الرقيب «فيرتشايلد». إلا أن «كالي كاي» رجل لا يعرف أن يقول (لا) لأحد، ليس لأنه رجلٌ ضعيف كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، بل على العكس، فشخصيته قوية والدليل على ذلك انصهاره في الكتلة العسكرية، منذ اللحظة الأولى، ليكفَّ عن أن يكون شخصاً له ذاته الخاصة، فيتبع الجنود الثلاثة، وشيئاً فشيئاً، يتكيف مع الملابس، ويتبنى المواقف والأفكار التي يجب أن يمتلكها المُحارِب في حالة الحرب، وهكذا يتغير اسمه ويعيد صياغة نفسه من جديد لكي يتأقلم مع مجريات الأمور، ليصبح في نهاية المطاف محارباً قوياً يتحول إلى رجل مختلف تماماً وبهوية ودور مختلفين في الحياة. وهو ما عزّزهُ بريخت في ذهن رولان بارت، أي علينا مراقبة ما يبقى من الإنسان عندما يتم تجريده من هويته، هل سيستسلم إلى شهواته كليّاً، مثلما حصل لـ«كالي كاي»؟ في الحقيقة إنَّ عنوان مسرحية بريخت تلك ومحتواها ما هي إلا مقدمة غزيرة ارتكز عليها بطريقة أو بأخرى مُجمَلُ الدراسات التي قام بها رولان بارت الناقد الفرنسي الشهير لاكتشاف لذة اللغة، وليس فقط أبعاد معناها، ولعل السبب في اهتمام بارت بهذا الجانب يعود لعام 1952 حين أقام في المركز العالمي للبحث العلمي Centre National de la Recherche Scientifique لمدة سبع سنوات دَرَس خلالها علم اللسانيات وعلم الاجتماع.
 
 
برتولت بريخت
 
بين لذة النص وموت المؤلف
 
لذة النص قراءة شعرية تتجاوز المعنى المُتَّفَق عليه وتتجاوز القراءة الشرحية، كما يصنفها الناقد ترودوف عند تقسيمه لقراءات النصوص الأدبية، فكل نص عند بارت يقوم على حياكة لغة مكتوبة تفرزها العلامة اللسانية، ولكل نص أدبي مكتوب مظهران: مظهرٌ سيميائي مؤلفٌ من الحروف الدالة على الألفاظ والعبارات، ومظهر معنوي وهو الجانب المُتَصوَّر في الذهن، كما سماه عالم اللغة اللساني فرديناند دو سوسور. بالعودة إلى كتاب بارت الشهير «موت المؤلف» يشرح عبد الله الغذامي في كتابه «نقد وحقيقة» أن مقولة موت المؤلف لا تعني إلغاء المؤلف نهائيا، بقدر ما هي عملية تحرير النص من سُلطة المؤلف وخضوعه للقارئ، أي عملية عقد قران بين النص والقارئ، ومن ثم الاستفادة من خبرات المؤلف في مباركة هذه العلاقة، وهذا يحتاج إلى قارئ جيد لكي يفهم ما كان يعنيه المؤلف ولو بشكل عام. ولكيلا ينفر القارئ من الكتابة فيعتبرها حالةً مُعقَّدة لا يمكن فهمها إلا بدراسة أبعادها فإن بارت يُعَرِّفُها على أنها: «ليست سوى بقايا الأشياء الفقيرة والهزيلة للأشياء الرائعة والجميلة في داخل كل منا». كما يعتمد بارت في بحثه على دراسات بيبليوغرافية لا تختلف كثيراً عن الشكلانية الروسية وفنيَّات التَلَقّي، فهو يدور في فلك الكتابات المطوَّلة، ومن ثم يتوقف عند كل ما هو أكثر أهمية، متقاطعاً في معظم الأحيان مع ما يقوله الكاتب روث غروسريشارد: «إذا كان من اللازم توصيف العمل المُبدِع سنقول بسرور إنَّ كلَّ صغير جميل!».
تعتمد نظرية بارت على فكرةٍ مفادُها أنَّ النص مقدِّمةٌ يبدأ من خلالها الكاتب حواراً مع القارئ، لأن القراءة تجعل من المكتوبَ أُفقاً لا يتوقف عند حد، بل تتعدى ذلك لتجعل المكتوب يصيغ من نفسه الكثير من المعاني لتتفاعل حتى تتحوَّل كل مقدِّمةٌ فيه إلى بداية لتًصَوُّرِ جديد. فيقول بارت: «إن النص بداية مفتوحةٌ تُكتَب وتُقرأ وربما هنا تكمن اللذة». في كتابه لذة النص يحاول بارت أيضاً إعادة تعريف الأنواع الأدبية الثابتة من خلال المزج بين تقنيات القراءات المتعددة للنص الأدبي، ومن خلال بنيوية تشكل تشاركاً محيِّراً ومفتوحاً على الاحتمالات كافة، لنسف القيم البورجوازية الكانتونية التي تمت الإشارة إليها آنفاً.
يُشدِّدُ بارت على أن التعامل مع الجمال بلا شعور جمعي غيرُ دقيق، ولا يُعَبِّر سوى عن انطباع النملة عندما تدخل قصر فيرساي، فهو يسخر من أُحادية الرؤية عندما وقعتْ في يده صورة جيروم الأخ الأصغر لنابليون بونابرت فتأمَّل في وجه جيروم ثمّ قال: «إنني أرى العينين اللتين شاهدتا الإمبراطورية!» إذن المتعة فكرةٌ غامضة وحَمَّالة أوجُه، حيث يمكننا أن نصل من خلالها إلى النشوة، الوفاء والراحة ونستخدم لغةً تعبيرية تحدث وتنتشر تحت حماية المعرفة، فالكاتب الحداثي يُولَد في الوقت نفسه الذي وُلِدَ فيه نَصُّهُ وسيبقى النَص مكتوباً، هنا والآن! النص الحداثي يزعزع الأسس التاريخية والثقافية والنفسية للقارئ، وتَناسُقَ أذواقه بمشاعر الاهتزاز، الفقد أو التمرد، هذه المتعة العامة هي متعة النص.
إن متعة النص، ليست اجتماعية فالتفاعل معها وإنشاؤها يكون مستقلاً تماماً عن مؤلفها، لكنه مرتبط عضوياً في الآن ذاته بالقارئ، وبقاء القارئ يعني بقاء المؤلف وليس العكس. بهذا النفس البراغماتي يكون رولان بارت صنع روحاً تكاملية بين القارئ والكاتب معاً.
في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين كان رولان بارت في قلب الصراع في فترة الاضطرابات الفكرية في باريس، فخرج في كتاباته عن مفهوم المُصَوَر وثقب الكاميرا الصغير، واعتقل اللحظة الهاربة ليمسك بما يريده من مشاهدات، وِفقَ معرفةٍ بصرية لا تنفصل عن عموم الثقافة بمعناها الإنساني، وهو ما فعله معاصره فيليب سولير من خلال مهاجمة البنى المعيارية للغة باستخدام كلمات جديدة أعمق من الكليشيهات اللغوية، لقد أراد بارت أن يروي لنا حكايات أُخرى نكتشف من خلالها سيرةً أخرى للضوء بوصفنا مُتَلَقّين ومتفرجين، وأراد أيضاً الابتعاد عن مركزية الذات لدى المؤلف وتوظيف مركزية اللغة بمعناها النابض، لِفضِّ الشراكة بين نرجسية المؤلف وشغف القارئ، مؤكِّداً على عدم تجاهل (الستوديوم) إنما على دراسة كلّ جزئيات المفهوم، مع التركيز على فكرة الوخز التي لا يتفق عليها سوى البعض القليل.