الحياة في غزة ربما تتحول من جحيم مطلق إلى مجرد كابوس.. ماذا سيحدث الآن؟
الغد
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
حسين آغا؛ وروبرت مالي* - (الغارديان) 14/10/2025
هذا الصراع ليس خلافًا تقنيًا حول الأراضي أو الحدود أو الترتيبات الأمنية. إنه صراع عميق، دائم، وعاطفي، بين شعبين. وقد تطلب الأمر رئيسًا أميركيًا متحررًا من القيود الداخلية التقليدية لإنجاز هذا الاتفاق وتزويد كل من الطرفين بما يمكن أن يقبله.
تتطلّب خطة دونالد ترامب للسلام في غزة من الفلسطينيين التكفير عن أفعال السابع من أكتوبر المروّعة، لكنها لا تطالب إسرائيل بأي كفارة عن البربرية التي تلت. وهي تدعو إلى "إزالة التطرف" من غزة، لكنها لا تدعو إلى إنهاء النزعة المسيانية المتطرفة في إسرائيل. وتدير الخطة أدق تفاصيل مستقبل الحكم الفلسطيني، بينما لا تقول أي شيء عن مستقبل الاحتلال الإسرائيلي.
إنها خطة تعجّ بمواطن الغموض، خالية من الجداول الزمنية، ومن المُحكِّمين، ومن أي عواقب حقيقية تترتب على الانتهاكات المتوقعة عاجلاً أم آجلاً. إذا سارت الأمور حسب الخطة -إذا لم يتم استغلال غموض الصفقة نفسها لنسفها؛ وإذا لم تقف الاشتباكات المحتومة حول المراحل اللاحقة في طريق تنفيذ المرحلة الأولى؛ وإذا حافظت الدول العربية والإسلامية على ضغطها على الولايات المتحدة وتمكنت الولايات المتحدة من حمل إسرائيل على الامتثال- فإن حياة الغزيين ستنتقل من جحيم مطلق إلى مجرد كابوس. سوف تتبدّل حالتهم من فريسة بلا دفاع إلى لاجئين منفيين للمرة الثانية في داخل أرضهم نفسها. ومع ذلك، سيكون هذا إنجازًا هائلًا بحد ذاته.
نادرًا ما تمتّعت إسرائيل بمثل هذا القدر من الهيمنة العسكرية الإقليمية، ونادرًا ما عانت في الوقت نفسه من هذا القدر من العزلة. والفلسطينيون نادرًا ما حظوا بمثل هذا القدر من الدعم العالمي الواسع، في حين أن حركتهم الوطنية نادرًا ما بدت بهذا التيه والضياع. ولم يتمكن أي من الطرفين من تحويل ما راكمه من أوراق قوة هائلة إلى مكاسب سياسية ملموسة.
تطلب الأمر رئيسًا أميركيًا متحررًا من القيود الداخلية التقليدية، محصنًا ضد قوانين الجاذبية السياسية، ومستعدًا لكسر الأعراف بالانخراط مع "حماس" ومواجهة إسرائيل، من أجل إنجاز هذا الاتفاق وتقديم ما يمكن للطرفين القبول به. بالنسبة لإسرائيل، تمثلت المكاسب في استعادة الرهائن، واستمرار وجود عسكري لها في غزة، وإنهاء حرب كانت تستنزف مواردها الداخلية وتستنفد دعمها العالمي. وبالنسبة لـ"حماس"، كانت المكاسب وقف المذبحة الوحشية، وتدفّق المساعدات الإنسانية، والإفراج عن الأسرى، واستبعاد ترحيل سكان غزة وضمّ الضفة الغربية، والاعتراف الفعلي بالحركة باعتبارها طرفًا فلسطينيًا رئيسيًا في مسائل الحرب والسلام.
ولكلا الطرفين، كان ما جرى إقرارًا بصفقة غير كاملة. لم تكن لمعظم بنود الخطة أهمية تتجاوز هذه النقاط المذكورة. وكما كان الحال في الماضي، فإن التقدم في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي لم يعتمد كثيرًا على التفاصيل النصية -التي لا يعرف ترامب عنها شيئًا- ولا على التعقيدات الفكرية -التي يزدريها- بقدر ما اعتمد على ممارسة القوة الخام -التي يقدرها ترامب ويستمتع بها. أما أنّ ما حدث كان ينبغي أن يحدث منذ زمن بعيد، وأن أرواحًا كثيرة كان يمكن -وكان يجب- إنقاذها، فشيء لا جدال فيه. إنها مسؤولية ينبغي أن يتحمّلها أولئك المعنيون، والتي يجب أن يُحاسبوا عليها.
ثم هناك دور تركيا وقطر، الدولتين اللتين تثق بهما "حماس" وعليهما تعتمد. وقد استطاعتا إقناع الحركة الإسلامية بقبول ما كانت قد رفضته سابقًا، وبقبول ضمانات لم تكن مقتنعة بها. لم يكن هذا اتفاقًا بين إسرائيل و"حماس"، بل كان اتفاقًا بين الرئيس ترامب، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني. وفيه قدمت الولايات المتحدة ضمانات لإسرائيل، وقدمت تركيا وقطر ضمانات لـ"حماس".
حيث بدا أن هناك افتقارًا للضمانات الأميركية المباشرة لـ"حماس" بأن الحرب لن تُستأنف بعد إطلاق سراح الرهائن، نجحت الضمانات غير المباشرة من خلال أنقرة والدوحة في إحداث المطلوب، لأن "حماس" ترى أن واشنطن أقل احتمالًا لأن تخون دولًا يوليها ترامب اهتمامًا كبيرًا من أن تخون حركة مسلحة لا يكترث لأمرها مطلقًا. وقد تباهت إسرائيل بانتصارها على ما تسميه "محور المقاومة الإيراني"، لكنها ورثت محورًا جديدًا، تركيًا/ قطريًا، من الإسلاميين.
كان من السمات اللافتة للمشهد غياب القيادة الفلسطينية الرسمية المعترف بها، بل انعدام وجودها الكامل. كانت هذه محادثات تدور حول مستقبل الفلسطينيين من دون أي ممثل فلسطيني رسمي في القاعة. مثل مشاهد خارجي يقف على الهامش ويتوسل من أجل دور في مسرحية كتبها وأخرجها آخرون، تكتفي "السلطة الفلسطينية" بالتعليق على فظائع حرب لم تخضها، ثم بالتصفيق لاتفاق لم يكن لها فيه يد ولا له بها صلة. وبينما تبدو غير قادرة على حكم الضفة الغربية، تعرض أن تتولى حكم غزة. أيّ دليل أوضح على انعدام الصلة من الاضطرار إلى التوسل من أجل الصلة؟
حددت إسرائيل كسر إرادة الفلسطينيين وسحق عزمهم كهدف لها. ولكن، بدلاً من ذلك، وفق ذكريات الفظائع، ربما تنبت عمليات القتل الجماعي، والدمار الواسع عناصر أكثر تطرفًا، والتي تسعى إلى الثأر وتلجأ إلى أعمال يائسة. كانت صور العام 1948 قد ساعدت على ظهور "منظمة التحرير الفلسطينية" إلى الوجود؛ وقد تفرز وقائع العامين الماضيين نتائج أشد فتكًا. ربما يستغرق ذلك بعض الوقت، لكن الاستماع إلى الفلسطينيين بشكل عام، وإلى الغزيين على وجه الخصوص، يكشف عن شعور مقلق بحتمية مشؤومة قادمة: إن التاريخ يستعد للانتقام. وبذلك، قد يكون الغد في الحقيقة تكرارًا للأمس.
ساعدت لا تقليدية ترامب في خلق هذه الهدنة الهشة، لكن الأمر سيتطلب قدرًا أكبر من الخروج عن المألوف للتوصل إلى إجابة أكثر صلابة لمسألة غزة، وقدرًا أكبر من ذلك لشق طريق إلى التعايش السلمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين. لن تُجدي الخطط البارعة أو اللغة الذكية نفعًا. لقد أنتجت كل مواجهة بين إسرائيل وحماس -في الأعوام 2009، و2012، و2014، و2021- مخططات دقيقة لفتح المعابر، وتخفيف القيود، وبدء إعادة الإعمار، ووقف تهريب الأسلحة، ولم يُنفذ حتى مخطط واحد منها. والأمر ذاته ينطبق على عدد لا يُحصى من مقترحات "حل الدولتين" التي عالجت بمهارة، منذ العام 2000 على الأقل، قضايا تخصيص الأراضي، وتقسيم القدس، والترتيبات الأمنية، لكنها فشلت دائمًا في حلّ الصراع. لو كانت المشكلة تقنية بحتة، لكان للأميركيين سجل مبهر من النجاحات وليس سلسلة طويلة من الإخفاقات، لأنه لا أحد يتفوق عليهم في براعتهم اللغوية. الخطط المتقنة والمفصلة لن تحقق تقدمًا؛ استخدام القوة، وممارسة السياسة، وفهم وصياغة حساسيات كلا الطرفين، ربما تفعل.
سوف يتجنب نهج غير تقليدي الحلول السريعة التي جُربت في الماضي والتي لم تُصلح أي شيء: تلك الحلول التي كانت مهووسة بالحلول التقنية؛ وراهنت على إسرائيليين أكثر "عقلانية" وفلسطينيين أكثر "اعتدالًا" من الذين لم يكونوا يتمتعون بنفوذ داخلي يُعتد به؛ وركزت على مفاوضات ثنائية بين أطراف غير متكافئة القوة ليكون الفشل مضمونًا؛ واستبعدت أطرافًا ثالثة مؤثرة؛ وتمسكت بمفاهيم جامدة للتقسيم لم تعالج المظالم والتطلعات الأعمق. لقد تم تجريب هذه الأساليب عبثًا لأكثر من ثلاثة عقود. وكان السعي العقيم وراء تلك الأوهام والخدع هو ما أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.
إن هذا الصراع ليس نزاعًا تقنيًا حول الأراضي أو الحدود أو الترتيبات الأمنية. إنه صراع عميق الجذور، مستمر وعاطفي بين شعبين. وليس ثمة جدوى من التظاهر بخلاف ذلك. ربما يجعل هذا التظاهر البعض يشعرون بارتياح ما وبأنهم أفضل حالًا، لكنه لن يُحسّن حياة إسرائيلي واحد أو فلسطيني واحد. لم يأتِ خير قط من سوء تفسير الواقع، وربما يأتي بعض الخير من مواجهته كما هو.
*حسين آغا Hussein Agha: كاتب وباحث كان منخرطًا في شؤون المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية لأكثر من نصف قرن. عمل لأكثر من 25 عامًا باحثًا أول في كلية سانت أنطوني بجامعة أكسفورد.
*روبرت مالي Robert Malley: محاضر في كلية جاكسون للشؤون العالمية بجامعة ييل. شغل مناصب عليا في شؤون الشرق الأوسط في إدارات الرؤساء بيل كلينتون وباراك أوباما وجو بايدن. آغا ومالي هما مؤلفا كتاب "الغد هو الأمس: الحياة والموت والسعي إلى السلام في إسرائيل/فلسطين" Tomorrow is Yesterday: Life, Death, and the Pursuit of Peace in Israel/Palestine.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Life in Gaza may go from utter hell to mere nightmare. What happens now?