عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Dec-2019

لماذا يرى نيتشه أنه لا يمكن التخلي عن الدين؟ - سفيان الغانمي
 
الجزيرة - عرف نيتشه بانتقاداته اللاذعة للدين، وعلى وجه الخصوص ممثليه الذين هم الكهان، ولا يتوانى يشرح ويفسر كيف ظهر الدين وكيف يؤثر على عقول المقتنعين به، كما أنه يتمسك بالعلم ويعتقد أن هذا هو البديل الذي يستطيع أن يستغني به الإنسان عن الدين، وإن كان يؤكد أن هذا أمر صعب التحقق، لأنه ينبغي للإنسانية أن توجد أخلاقا تضبطها أو تنضبط لها، وإن كان هذا الأمر في غاية الصعوبة كما يؤكد هو أيضا، لكن نيتشه الذي ترك دراسة اللاهوت متجها لدراسة الفيلولوجيا يدرك جيدا سحر الدين ودوره في المجتمع، لذلك وإن كان شديد الانتقاد له لكنه لا يدعوا لانتزاعه أو فصله من المجتمع على الأقل في وقته.
 
وفي مفارقة غريبة منه يبين مدى أهمية ودور الدين في حفظ السلم والأمان في المجتمع في حين يكون لا شيء آخر قادر على القيام بدوره، وإن كان يشكك في مصدره الإلهي ولا شك أن رأيه هذا يتعلق بالدين المسيحي الذي عرفه، لكن نيتشه كان متبصرا بدور الدين في المجتمع حتى وإن لم يقتنع به كنظرية أو كإيديولوجية رأى فيها أنها حل لجأ فيه الضعفاء عندما كان الإنسان لا زال يرتهب أمام الظواهر الكونية التي كان عاجزا عن صدها أو تفسرها وكأنه الآن لم يعد كذلك! فاخترع الدين ليفسر به هذا الأمر الغريب، لكن هذا الدين كان له فائدة على المجتمعات، ولا زالت حسب رأي نيتشه فما هي يا ترى؟
 
في كتابه إنساني مفرط في إنسانيته الذي يرسم فيه طريقا للإنسانية لتتحرر من الخرافة داعيا إياها إلى التمسك بالعلم، يكتب نيتشه مقالا تحت عنوان "الدين والدولة"، يرى بداية نيتشه أن هذان أمران متلازمان، ومشتركان في نفس المصالح، وبالتي فإذا ضاع أو تلاشى أحدهما ضاع الثاني، كما أن مصالح الكهان والحكام متقاربة أيضا، فالحكام بدون كهان لا يمكنهم إثبات مشروعيتهم، وبالتالي فإن سلطتهم تكون مهددة بالزوال، لذلك يلجؤون إلى الكهان لإثبات مشروعيتهم في مقابل ذلك يحتاج لهم الكهان في توفير الدعم والسند لهم ليقوموا بعملهم أيضا.
 
العجيب هو أن نجدنا نحن الذين نعتقد اعتقادا جازما أن ديننا هو وحي من السماء، وأننا لا زلنا نملك كتابا بيننا حججه صحته أصح من الحجج على وجودنا المادي، ومع ذلك نسعى إلى تنحيته من حياتنا
لذلك فهذان أمران متلازمان ويتوقف أحدهما على الآخر، ولا شك أن نيتشه هنا على الأقل يصف مرحلة من مراحل أوروبا، وهذا الأمر صرح به عندما تحدث عن مارتن لوثر، وبالتالي فلا يمكن إنكار أمره هنا، لأنه صائب في جانبه لأنه يتحدث عن واقع عاشه، لكن في نفس الوقت لا يمكن تعميم هذا الأمر على حضارات وأماكن أخرى، لأنها قد تكون مرت بأحوال متشابهة لكنها حتما ليست كتلك الأحوال التي عاشها نيتشه، وما دام الأمران متلازمان كما يؤكد نيتشه فالأمور ستكون على ما يرام، لكن متى يصبح هذا الوضع غير صالح أو غير ناجع.
 
لكن الأمر وكما نعلم جميعا سيتغير، فيصبح الدين الذي كان مسألة رسمية، يعطي الشرعية للدولة، في مقابل أن تلتزم هي بحفظه وتنظيمه، سيصبح مسألة شخصية بعد أن تكثر فيه الآراء والمذاهب وتعجز الدولة عن التحكم فيه أو تنظيمه سيختل حينها ذاك التوازن الذي كان قائما، بحيث سيصبح لكل فرد دينه الخاص به، كل واحد سيأتي بطقوسه وقناعاته وما دام أن الأمر مسألة شخصية فلا أحد يحق له أن يحاسب الأخر على ما أتى به أو ما يقتنع به، حتى ولو كانت الدولة، فالدين في الأخير أصبح مسألة شخصية، هنا ستدخل فئة ثالثة على الخط، وهم أولئك الذين سينزعجون من هذه الممارسات، ومن ثم ينفون أن يكون هذا دينا صحيحا أو دين مصدره الإله، وبالتالي فهم سيقررون ترك هذا الدين.
 
هنا سيدخل الفريقان في صراع، وما دام أن الذين سيكونون قد تخلو عن الدين سيتمسكون بالدولة، فإن أولئك المتدينين يعلنون العداء التام لها، حتى وإن كانوا يطيعون تلك السلطة التي تشرع القوانين، لكنهم لا يلبثون أن يعارضوا جميع القرارات التي تتخذها، وهذا سيدفع أولئك اللامتدينين أن يدخلوا في صراع مع هؤلاء، هنا سيفكر الكهنة إذا كان في إمكانهم الرجوع إلى الخلف، أي إلى الوضع الذي كان عليه الأمر من قبل لكنهم لن يستطيعوا، في حين يكون أولئك التاركين للدين يسعون للبحث عن معوض يقوم مقامه، وهنا سيتحول كلا الطرفان إلى البحث عن الجهة التي يأتيهم منها النفع فقط ليمارسوا تأثيرهم عليها، بعدما يكونا قد فقدا الإيمان بالدولة التي سيبدأ يقوم مقامها الشركات الخاصة الكبرى.
 
رغم أن نيتشه عاش قبل قرن من الآن، إلا أنه من خلال رؤيته الثاقبة لزمانه وتحليله للأوضاع كان يتنبأ بما يؤول إليه الأمر، ولا شك أننا لو نظرنا إلى واقع بعض البلدان العربية الآن، رغم الاختلاف الكبير والشديد بين المجالين، لكن الوضع فيها يتشابه بشكل كبير مع ما كان يصفه نيتشه، لكن المؤكد الذي لا يمكن أن يتفق فيه مع نيتشه أو على الأقل لا يمكن إسقاطه على وضعنا، وهو مفهوم الدين عنده ووظيفته فلا يعقل أن يسقط على مفهوم الدين ووظيفته في الوطن العربي، لكن هذا لا يمنع من النظر إلى الكثير من الإشكالات التي تواجه الوطن العربي اليوم، ولا شك أننا نعرف أن كل البلدان العربية بعد الاستعمار تبنت مفهوم دولة المؤسسات، وتخلت عن مفهوم الدولة التقليدي، ومن هذا الجانب فإن ما يتحدث عنه نيتشه يتشابه بشكل كبير مع الوضع العربي، لكن الغريب هو أن نيتشه يدعوا إلى التمسك بالدين ويقر بأن الدول لا يمكن أن تفرط فيه، لأن الدين وحده هو الذي يستطيع أن يخرج الناس من بعض الأزمات التي تواجههم مثل المجاعات والحروب والجوائح بأقل الخسائر، أو على الأقل يجعلهم يفسرون ذلك بأمر غيبي، هذا طبعا مع اعتقاده كما سبق بأن الدين باطل كما يصرح بذلك، ويقصد طبعا الدين المسيحي.
 
لكن العجيب هو أن نجدنا نحن الذين نعتقد اعتقادا جازما أن ديننا هو وحي من السماء، وأننا لا زلنا نملك كتابا بيننا حججه صحته أصح من الحجج على وجودنا المادي، ومع ذلك نسعى إلى تنحيته من حياتنا وتقليص دوره في المجتمع، بدل أن نعتبره مغنما تفردنا به، غير أنه ينبغي لنا أن نعرف مجاله وحدوده، ولا شك الوظائف التي يقوم بها، لكن وأسفي، إن آفة التقليد التي نتبجح صباح مساء أنه ينبغي أن نحاربها، نحن واقعون فيها إلى أخمص قدمينا، فلا نرى إلا ما يرينا إياه غيرنا وكأننا عميان البصر والبصيرة.