عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Jun-2025

غزة في مواجهة نيرون العصر* د. جهاد حمدان

  الغد

عقودٌ ستة مضت على قصيدة محمود درويش التي تجسّد معاناة الفلسطيني في وطنه السليب وما انطوت عليه من سجن وتعذيب وتشرّد ولجوء. وما يئِس، ففجرُ الحرية قادم.
 
 
وضعوا على فمه السلاسلْ
 
ربطوا يديه بصخرة الموتى
وقالوا: أنت قاتلْ!
أخذوا طعامَهُ، والملابسَ، والبيارقْ
ورموه في زنزانة الموتى 
وقالوا: أنت سارقْ!
طردوه من كل المرافئْ
أخذوا حبيبته الصغيرة 
ثم قالوا: أنت لاجئْ!
يا دامي العينين والكفين!
إن الليل زائلْ
لا غرفةُ التوقيف باقيةٌ
ولا زَرَدُ السلاسلْ!
نيرون مات ولم تمت روما ...
بعينيها تقاتلْ!
وحبوبُ سنبلةٍ تموتُ
ستملأُ الوادي سنابلْ!
ما دخلُ روما وما دخل نيرون؟ هل كان درويش بمخياله الشاعري وببصيرة شعبه الجمعية يعرف أنّ روما ونيرون ما هما إلّا مجازات مفاهيمية لهما شبههما في السياق الذي أوحى له بالقصيدة؟ فهناك بين الغزاة الصهاينة من لم يكتفِ باغتصاب جزء من فلسطين، بل يخطط لابتلاعها كلها حتى لو تطلب ذلك إحراق الأرض التي لم تخضع له بعد وتدميرها وإبادة سكانها. 
لا يمكن لأحد الآن أنّ يمرّ على "نيرون مات ولم تمت روما" من دون أن يستحضر درويش ورمزيته الشعرية، وهو يشاهد ما يفعله جيش الاحتلال الصهيوني وحكّام تل أبيب في غزة. درويش لم يكن يكتب عن الماضي، بل عن صيرورة الحاضر بعيون المستقبل. كان يُحاكم الاستبداد بلغة الرمز، كان يرى أنّ المدن لا تموت بموت جلادّيها. واليوم، تبدو غزة كأنها خرجت من بين سطور القصيدة، تلبس روما، وخرج معها في السياق نفسه سفّاح غزة، فاشستي العصر نتنياهو، ليتقمّص نيرون ويحرق غزة كما حرق نيرون روما عام 64 ميلادي.
في تلك السنة، اشتعلت النيران في قلب روما لستة أيام، ثم عادت لتأكل ما تبقى منها في ثلاثة أخرى. وتقول الروايات إن نيرون، الإمبراطور أشعل النار في الأحياء الفقيرة بنفسه. لم يكن ذلك حريقًا، بل مشروعًا عقاريًا بالنار، خطّة مدروسة ليزيل الفقر من وجه المدينة ويبني مدينة جديدة على مقاس طموحاته، سماها: نيروبوليس.
في غزة، يُستعاد المشهد بنسخة أكثر توحشًا. منذ عشرين شهرًا وغزّة تُحاصر وتُحرق بفعل عدوان صهيوني فاشي متواصل، خلّف أكثر من 53 ألف شهيد، و150 ألف جريح ومفقود. حرق الصهاينة المدارس، وهُدموا الجامعات، ودمّروا البيوت، وقُطعوا المياه والكهرباء، ومُنعوا دخول الغذاء والدواء.
لكن هذه الجريمة وسابقاتها ليست عشوائية. فقد خطّطت لها ورسمتها حكومات الكيان المتعاقبة ووصلت ذروتها مع تسيُّد نتنياهو. تبنّى الرئيس الأميركي دونالد ترمب في فترة رئاسته الأولى سردية دولة الكيان: اعترف بضم القدس، وشجّع ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية في ما عُرف بـ"صفقة القرن"، ثمّ عاد يتابعها في فترة حكمه الثانية وهو يرى غزة تحترق ودمها شلّال. طرح فكرة إفراغ غزة من سكانها وتهجيرهم إلى مصر والأردن، ليحوَّلها لاحقًا إلى منتجع استثماري ساحلي، "الريفيرا الفلسطينية"، يبنيه فوق أنقاضها ليجلب له تريليونات جديدة من الدولارات. فما يدفعه له بعض الحكام العرب "طوعا"، على رأيه، ليس سيّئا حتى وهو يقترب من 5.1 تريليون. نيرون العصر لا يعزف القيثارة ... بل يضغط على زر طائرة مسيّرة، لتحرق وتقتل.
ومع ذلك، لم تهب مدن الضفة الغربية، فرئيس سلطة رام الله ضمِن لهم هدوءها. فمن لا يريد صفد، هل تهمه غزة؟ هل استكانت الأحزاب اليسارية واليمينية والقومية والدينية وزعماؤها وتركوا للزعيم الجمل بما حمل، وقنعوا من الغنيمة بما حصل، وصاروا يتابعون الأخبار وينتظرون نتائج همهمات ترامب وتحركات ويتكوف؟
لم تتحرك بلدان وعواصم الإقليم. لم يحاول حتى الأقدر من حيث الإمكانية الجغرافية واللوجستية إرسال فرقة إطفاء أو سيارة إطفاء واحدة. تذكّروا. نحن نتحدث عن الحرق، ولم نأت على سيرة الجوع والطحين، ولا عن سيرة السلاح والمتطوعين. وهذا ينطبق على غيرها من "الرسميّات" العربية والإسلاميّة باستثناءات نادرة، لا تخفى دوافعها. فقد راقب بقية الحكام اللهب كمن ينتظر نهاية العرض، بل ويستعجله. 
غزة لم تمت. بل تقاتل بعينيها المفتوحتين، ترصد من خذلها ليوم الحساب، وتحيّي من دعمها من الشعوب والدول والحكومات. تدفع دمها ولا ندفع دمنا، نيابةً عن خنوعنا.
بالمناسبة، جرّب مجرم آخر حظّه مع غزة، إنه شارون، وفشل. أكمل انسحابه منها في 12 أيلول 2005. وشمل الانسحاب إخلاء 21 مستوطنة صهيونية. ومات في 11 كانون الثاني 2014، بعد أنْ ظل في غيبوبة منذ عام 2006. لقد حُقّ لأهل غزة أن يفاخروا:
شارون مات ولم تمت غزة.
وستنهض غزة من بين الركام، ويموت نتنياهو، وسينشد الغزّيون ومعهم الفلسطينيون وسائر عشاق الحرية:
نتنياهو مات ولم تمت غزة.
غزة بعينيها تقاتل.
أما دماء الشهداء، فستسقي الأرض وتملأ الوادي سنابل.