عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    13-Sep-2019

ارمِ موقعي! بين الأدب والدراما - مجدي دعيبس

 

 
الدستور - ظل الأدب يرفد السينما بأعمال رائعة على مر السنوات التي شهدت النشأة الأولى ثم الصعود وانتهاءً بالانتشار والتأثير. الكثير من الروايات الناجحة تم تحويلها إلى أفلام ما زالت لغاية اليوم تشكل علامة فارقة في تاريخ السينما. ولعل الروائي المصري نجيب محفوظ من أبرز هؤلاء الذين تسابق المنتجون والمخرجون لتلقف أعماله الروائية وإنتاج أفلام حققت لهم الشهرة والنجاح، حيث رصدت هذه الروايات التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي مر بها المجتمع المصري على مدار عقود طويلة. السينما حوّلت المادة الابداعية من الرواية التي قد لا يتسنى للجميع الاطلاع عليها لأسباب كثيرة إلى مادة مرئية يسهل على كافة طبقات المجتمع متابعتها والتفاعل معها. على أن نجيب محفوظ ليس الوحيد بين المصريين الدّال على عمق العلاقة بين الأدب والسينما فهناك غيره الكثير مثل يوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس ومحمد عبدالحليم عبدالله. البعض يشير إلى أن السينما كانت وراء انتشار نجيب محفوظ ووصوله إلى العالمية ولعل في هذا شيء من الإجحاف وربما القول بإن السينما أفادت من روايات محفوظ كما أفاد هو منها أقرب إلى الموضوعية.
وكان هذا شأن كل الشعوب التي دأب كتّابها وصنّاع السينما فيها على توطيد الوشائج والعلائق فخرجوا على الناس بأعمال تستحق الإشادة وتعبّر عن تاريخهم وهمومهم وآمالهم. وتبقى قصص البطولة إحدى المواضيع المحببة للسينما لإنها تسرد التاريخ بالأبيض والأسود بدون إسقاطات وإعمال الذهن بقضايا خلافية قد لا تكون الخيار المناسب لكل الأوقات. من بين الأفلام التي كررتها عاصمة السينما الأمريكية بنسخ متعددة، تصل إلى تسع، فيلم (Remember the Alamo) وهو يصور حادثة حقيقية في التاريخ الأمريكي على هامش ما يسمى بثورة تكساس عام 1836. (ألمو) اسم حصن في مدينة سان أنتونيو في ولاية تكساس حيث يقرر المدافعون عن الحصن المحاصر من قبل قوات الجنرال (سانتا آنا) عدم التسليم أو الانسحاب والتخلي عن الموقع مما يعني الموت المحقق، وفي مشاهد مؤثرة يسقطون الواحد تلو الآخر بعد دفاع مستميت عن الحصن وتكبيد القوات المهاجمة خسائر فادحة. لست بصدد الحديث عن الأفلام التسعة أو المقارنة بينها ولا الحديث عن قضية ضم تكساس إلى الولايات المتحدة الامريكية وإنما هي ملامح البطولة التي تهمني واللحظة الإنسانية التي تربطك بالأبطال وتجبرك على التعاطف معهم والإعجاب ببسالتهم. وقد اخترت هذا الفيلم بالذات كمدخل لموضوعي لأنه تكرر بتسعة نسخ وهو رقم غير مسبوق وهذا يعني ملايين الدولارات كتكلفة للإنتاج وربما أضعافها كعوائد، وأيضا لأنه يتحدث عن موضوع لا يحتمل أكثر من تأويل وهو الشجاعة والفداء في اللحظات الصعبة التي تكشف معدن الرجال. أصبحت عبارة (تذكروا الألمو) عند الامريكيين تستخدم كنداء لبث الحماس في النفوس واستثارة شجاعة الشجعان. هذا ليس من باب الدعوة لنقل أو اقتباس واستنساخ النماذج الثقافية للشعوب والأمم الأخرى، فما كان صالحا في زمان ومكان ما قد لا يكون مناسبا لكل الأزمنة والأمكنة فكل ثقافة لها تاريخ وجغرافيا وعادات وتقاليد وحتى مناخ خاص بها يؤثر في مفرداتها ومخرجاتها، ولكن هي دعوة للتفاعل والتثاقف والتلاقح بين الأمم؛ أن تأخذ وتعطي، أن تؤثر وتتأثر، وحتى نصل إلى هذه الحالة المثالية يجب ان تكون الأمة قادرة على تجديد خطابها الثقافي والحضاري. احتضنت الحضارة العربية الإسلامية المبدعين والعلماء من العرب وغير العرب ومن المسلمين وغير المسلمين مما أدى إلى حالة ازدهار متقدمة ونهضة شملت كل مناحي الحياة، وهذا تماما ما تفعله الأمم الأخرى التي تتصدر المشهد الحضاري حاليا.                
 ومن هنا أنتقل إلى خضر شكري يعقوب ضابط الملاحظة في كتيبة المدفعية السادسة في معركة الكرامة. تمركز على تلة مشرفة على ساحة القتال ومرر إحداثيات مواقع العدو للمدفعية الأردنية فقصفتها بدقة وقام بواجبه على أكمل وجه هو والجنود الذين بإمرته. كشفوا موقعه وتقدم فصيل من الجنود الإسرائيليين لمحاصرته وتحييده. عندما نفدت منه الذخيرة قام بإتلاف الخرائط والمعدات التي بحوزته وخاطب قيادة كتيبته على جهاز اللاسلكي: قوات العدو تحاصرني.. ارمِ موقعي! ثم نطق بالشهادتين. أي موقف بطولة أعظم من هذا؟ أي نداء (ارمِ موقعي) يستحث الشجاعة الكامنة في النفوس أشرف من هذا النداء؟ التاريخ أنصف خضر ورفاقه وسطّر اسماءهم بحروف من ذهب ولكن ماذا عن الأدب والدراما؟ كم رواية كان خضر أحد أبطالها؟ كم قصة كانت بطولة خضر موضوعها؟ كم فيلم أو مسلسل تلفزيوني أو حتى إذاعي أصابنا بالقشعريرة ونحن نسمع صوت خضر الثابت وهو ينادي: (ارمِ موقعي!). لا أريد أن أتجنى وأقول بإنه لا يوجد شي من هذا القبيل فلست مطلعا على كل الإصدرات السابقة واللاحقة في هذا المجال ولكنني أقول بالصوت العالي والمسموع بإن ما تم إصداره من روايات وقصص وأفلام ليس كافيا. إذا كانت هوليود قد مجّدت أبطال (الألمو) بتسعة أفلام فأنا أريد تسعين فيلما لخضر ورفاقه.
نحن نعيش في زمن الصورة والشاشات الذكية التي أقصت الكلمة وحجّمت دورها. أصبح الانتشار والتأثير في زمن الفضائيات مرهونين بما يشاهده المتلقي وليس بما يقرأه. نحن نريد لأبنائنا أن يعرفوا أن خضرًا أردني وأن البطولة على هذه الأرض لها تاريخ عميق من ميشع الموآبي إلى خضر المعاني. نحن نريد لأمهاتنا أن يهزجن لخضر ورفاقه حتى يكبر الأطفال وصدى الأهازيج عالق بمسامعهم، نحن نريد أن نقف بوجه من يريد بنا شرا ونتنادى: ارمِ موقعي!.. ارمِ موقعي!
أنا على يقين بأنه لدينا طاقات إبداعية مذهلة على مستوى السيناريو والإخراج والتمثيل وكافة التخصصات المرتبطة بصناعة السينما ولكن برأيي المتواضع وربما الساذج بأنه على هؤلاء جميعا أن يجلسوا في غرفة واحدة وأن يتحادثوا ويتحاوروا مرة ومرات حتى ينتهوا إلى نقطة البداية والانطلاق وهي الرفض بأن تئد معضلة التمويل الأفكار الجميلة. هناك أفلام ناجحة أبهرتنا وكانت تكلفة إنتاجها محدودة، أفلام ما زالت عالقة بالذاكرة لأن القائمين عليها تحدوا الواقع الصعب وظلت الأحلام تحثهم على الابتكار والابدع كل يوم.  
وفي الختام نقول: الرحمة الواسعة لأبطالنا وشهدائنا الأبرار!