الغد
آذنت «اتفاقيات أوسلو» التي أُبرمت في العام 1993 بانتقال مركز التمثيل من «منظمة التحرير الفلسطينية» إلى «السلطة الفلسطينية» المنشأة حديثًا، التي كُلِّفت بإدارة أجزاء من الضفة الغربية وغزة الخاضعتين للاستعمار الصهيوني. وبينما كان يُفترض أن تكون «السلطة الفلسطينية» هيئة حاكمة مؤقتة تشرف على التحضير لإقامة دولة فلسطينية، فإنها حلَّت تدريجيًا محل «منظمة التحرير الفلسطينية» في تمثيل الفلسطينيين. وزاد هذا التحول من تفتيت التمثيل. لم تُمثِّل السلطة الفلسطينية سوى الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة (وليس جميعهم، بالنظر إلى سيطرة الكيان وقيوده)، بينما استُبعد ملايين اللاجئين والمنفيين في دول الجوار وبقية العالم فعليًا من صنع القرار السياسي.
يمكن التفكير في مجموعة من العوامل التي دفعت القيادة الفلسطينية نحو خيار «أوسلو»، منها فقدان الأرضية للوجود السياسي والعسكري في الخارج القريب من فلسطين، خاصة بعد حرب لبنان الثانية في العام 1982 حين غزا الكيان الصهيوني لبنان واستهدف مخيمات اللاجئين الفلسطينيين هناك. وأدى الغزو لاحقًا إلى «اتفاق الطائف» وإخراج الفصائل و»منظمة التحرير الفلسطينية» من بيروت ومناطق الجنوب اللبنانية. وانتقل جزء كبير من المقاتلين والسياسيين الفلسطينيين إلى تونس التي أصبحت المقر الجديد البعيد للقيادة الفلسطينية، بينما انتقلت بعض الفصائل الصغيرة إلى أماكن أخرى، أبرزها سورية.
وفي الوطن، بدت الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987–1993) بديلًا عن محدودية الحل العسكري من الخارج، واقترحت أن الفلسطينيين قادرون على مقاومة الاحتلال بشكل جماهيري واسع ومستمر. وضغطت هذه الحركة الشعبية على الكيان الاستعماري سياسيا ودبلوماسيا، وأظهرت للمجتمع الدولي أن الوضع في الأراضي المحتلة غير مستقر، وأن استمرار الاحتلال يؤدي إلى أزمات إنسانية وصعوبات أمنية مستمرة.
كما أظهرت الانتفاضة حاجة الفلسطينيين إلى تمثيل سياسي معترف به وقادر على التفاوض، ودفعت مختلف الأطراف إلى البحث عن طرف فلسطيني يمكن التحدث معه. وبطريقة ما، فُتحت قنوات سرية للتحدث بين الكيان و»منظمة التحرير» في أوسلو. وربما رأت القيادة الفلسطينية في الانتفاضة مؤشرًا على ضرورة استثمار الزخم الشعبي لتحقيق مكتسبات سياسية ما، منها تحقيق اعتراف دولي وإيجاد سلطة فلسطينية على الأرض -وهو ما انعكس لاحقًا في توقيع «اتفاقيات أوسلو» في العام 1993.
ثمة عامل مهم يمكن التفكير فيه لتفسير اتجاه القيادة الفلسطينية نحو خيار أوسلو هو ضغط الطرد والإقصاء من أماكن تواجدها خارج فلسطين، وخاصة بعد حرب الخليج الأولى (1990–1991). في ذلك الوقت، خسرت «منظمة التحرير الفلسطينية» دعم بعض الدول العربية التي كانت تستضيف قياداتها وفصائلها بسبب موقفها المؤيد للعراق خلال الحرب. وأدى ذلك إلى إغلاق مقراتها وطرد كوادرها من الكويت ودول خليجية أخرى، بالإضافة إلى تراجع الدعم المالي والسياسي من الدول الحليفة. كما واجهت الفصائل في سورية ولبنان ضغوطًا مشابهة. كل ذلك حد من قدرة «منظمة التحرير» على العمل بحرية خارج فلسطين.
وعلى المستوى الدولي، مهدت تحولات نهاية «الحرب الباردة» وإطار «مؤتمر مدريد» (1991) الطريق لدبلوماسية جديدة، بحضور أميركي وأوروبي نشط. وربما رأى قادة المنظمة في ذلك فرصة لاستعادة الاعتراف السياسي، والحصول على مقعد تفاوضي رسمي مع الكيان، والعثور عن صيغة للتواجد داخل الأراضي المحتلة لضمان البقاء السياسي وإعادة تمثيل الشعب الفلسطيني.
ربما اعتقد القادة الفلسطينيون لدى التوجه نحو خيار «أوسلو»، بأن تحقيق اعتراف دولي أوسع بمنظمة التحرير والتواجد داخل الوطن سيؤسسان سلطة فلسطينية قابلة للتوسع لاحقًا إلى دولة مستقلة. وربما أملوا في استخدام الاتفاق كوسيلة لكسب الوقت، وبناء مؤسسات محلية، وتعزيز موقعهم التفاوضي، على أمل أن تمهد هذه الخطوات لاحقًا لمفاوضات أكثر شمولاً حول قضايا الحل النهائي: القدس، واللاجئون، والحدود، والمستوطنات. وربما خلصوا إلى استحالة تحقيق اختراق عسكري من خارج الوطن –وإمكانية، مهما بدت واهنة، لتأسيس شيء عسكري ما في الوطن. لكنّ هذه التوقعات لم تأخذ في الحسبان أن «أوسلو» ستضع قيودًا كبيرة على السلطة الفلسطينية وتقيد قدراتها على التحرك الاستراتيجي. ويبدو أنها لم تقدّر مكر الكيان الاستعماري وصعوبة خداعه: وبدلًا من إرسال فرق الاغتيال لملاحقة القادة الفلسطينيين في الأماكن البعيدة، تمكن الكيان من جلب المقاتلين والقادة معًا ليكونوا تحت رحمته وفي متناول يده، بينما يحقق «الاحتلال خمس نجوم» ومكاسب لا حصر لها.
وعدت «اتفاقيات أوسلو» بإنهاء الاحتلال تدريجيًا خلال فترة انتقالية من خمس سنوات، وأقرت بوجود «سلطة فلسطينية» تدير شؤون الفلسطينيين في الضفة وغزة، تمهيدًا للتوصل إلى اتفاق نهائي يعالج قضايا «الوضع النهائي»، مقابل اعتراف «منظمة التحرير» بالكيان ونبذ المقاومة المسلحة. لكن ما حدث فعليًا هو أن الاحتلال استمر، والاستيطان توسّع بوتيرة أسرع، وجيش الكيان سيطر على معظم الأراضي والموارد، بينما تم تقطيع أوصال الضفة الغربية بالمستوطنات والحواجز والجدار العازل بطرق جعلت إمكانية قيام دولة فلسطينية أبعد مع كل دقيقة.
بالإجمال، أدى ترتيب «أوسلو» فقط إلى تفتيت الوحدة السياسية الفلسطينية وتضييق نطاق التمثيل ليقتصر على نخبة صغيرة من فصيل واحد، متمركزة بشكل أساسي في الضفة الغربية، تمارس حكمًا ذاتيًا محدودًا على أراضٍ مجزأة متناقصة باطراد وخاضعة للاستعمار. وبينما ظلت «السلطة الفلسطينية» تُعتبر الممثل المعترف به دوليًا للشعب الفلسطيني، فإنها فقدت شرعيتها -حتى بين السكان الذين تتواجد بينهم وتدعي تمثيلهم. وأظهرت استطلاعات الرأي في الضفة الغربية وغزة استياءً متصاعدًا واسع النطاق من قيادتها، وأدائها، ودورها المفترض كمتعاقد من الباطن مع الاحتلال. وأدى إلغاء الانتخابات المتواصل، وقمع المعارضة، والتنسيق الأمني المعلن مع الكيان، إلى تعميق شعور الفلسطينيين بأن «السلطة» تخدم البقاء السياسي لقيادتها أكثر مما تسعى إلى خدمة المشروع الوطني. وبالنسبة لغالبية الفلسطينيين في الشتات -ملايين اللاجئين وذريتهم- لا توفر السلطة الفلسطينية لهم أي تمثيل على الإطلاق، بل تهمشهم سياسيًا وتتجاهل حقوقهم وتخرجهم من الفلسطينية جملة وتفصيلًا، على الرغم من مركزيتهم الطاغية في القضية الفلسطينية.