الغد-ترجمة: علاء الدين أبو زينة
جيريمي فارون – (كاونتربنش) 11/9/2025
حاول أن تعثر على المنطق في ما يلي: ثمة رئيس يتطلع بشغف إلى الحصول على جائزة نوبل للسلام، يقود الآن وزارة أعيدت تسميتها، بدفع من شهوة الحرب، لتصبح "وزارة الحرب"، جاهزة لـ"الانتقال إلى الهجوم". ثمة رجل يندد بـ"الحروب الغبية" بينما يطلق الجيش الأميركي ليعمل ضد عصابات المخدرات وفي شوارع أميركا، يهلل له "ميم" مبتذل ("نهاية العالم الإلكترونية الآن")** الذي يبشر بالغزو.
هل تنبع هذه التناقضات من حاجة ترامب النفسية إلى إعجاب الناس به كملك السلام وسيد الحرب في آن معًا؟ أم أنه ينبع من التوتر بين الانعزالية العسكرية والنزعة التوسعية في الأيديولوجية المحافظة المعاصرة؟
يحجب هذا الجدل المرهق واقعًا صارخًا: أن الولايات المتحدة هي مُسبقًا في حالة حرب، في ذهن ترامب وفي الواقع على حد سواء. وساحة المعركة تتسع على أساس يومي تقريبًا. وعلى البلد أن يدرك ذلك بسرعة وإلا فإنه سيغرق تمامًا في هاوية جديدة من الحرب التي لا نهاية لها، والمدفوعة، بداية، بنزوات رجل واحد.
لميل ترامب الحالي إلى العدوان العسكري جذور غريبة في ازدرائه المعلن لـ"الحروب الغبية" في العقود الأخيرة. كانت شخصيته "المسالمة" ضحلة وسطحية للغاية. وقد دعم حرب العراق قبل أن تبدأ، ولم ينقلب عليها إلا عندما غرقت.
ولا يكاد المرء يشعر بأنه نضج وأصبح لاحقًا يشكك في التدخلات المشبوهة على أساس تقييمات متأنية للصراعات، أو من منطلق مبدئي أو مصلحة وطنية تحدد أي الحروب هي تستحق التضحية العسكرية. بالنسبة له، "الحروب الغبية" هي ببساطة تلك التي لا تستطيع أميركا الفوز فيها بشكل حاسم. والفوز هو المقياس النهائي للقوة، أو الفضيلة، أو السياسة الرشيدة.
كان ولع ترامب بهذا المنظور واضحًا منذ زمن طويل. ولنا أن نتذكر ادعاءه بأن السيناتور جون ماكين، بسبب خطيئة وقوعه أسيرًا في الحرب، "ليس بطل حرب". أو سخريته من الجنود الأميركيين القتلى في مقبرة فرنسية للحرب العالمية الثانية باعتبارهم "خاسرين" و"مغفلين" لأنه "لم يكن هناك ما يستحق العناء بالنسبة لهم". حتى المنتصرون يمكن أن يكونوا خاسرين عندما لا تكون النتيجة نصرًا ساحقًا يحفظ الأرواح. وبوفائه لنهجه، يمتدح ترامب تسمية "وزارة الحرب" لأنها تبعث "رسالة انتصار".
النصر العسكري، في أكثر صوره بساطة، يعني سحق العدو سحقًا تامًا، مع الحد الأدنى من الخسائر الأميركية. ولذلك يضرب ترامب إلى أسفل، مهاجمًا أولئك الذين يملكون القليل من القدرة أو الإرادة للرد. ولسوء الحظ، لا يقوى مهربو المخدرات المزعومون في أعالي البحار على مجابهة الصواريخ الأميركية. وكذلك حال الجيش الفنزويلي إذا ما تم استدراج الرئيس مادورو لالتقاط الطعم والاستجابة برد يطلق العنان لهجوم أميركي شامل. كما لا يستطيع المهاجرون غير النظاميين -الضعفاء، الخائفون، والفقراء غالبًا- مقاومة عملاء الهجرة المسلحين بالبنادق الكبيرة. والأميركيون الغاضبون من الاعتداء على مجتمعاتهم وجيرانهم عاجزون أيضًا بنفس المقدار. بالنسبة لترامب، الوطن ساحة رخوة، مع ضمان شبه كامل لعدم وقوع خسائر. إنه نصر مؤكد حقًا.
تشكل شيطنة خصومه جزءًا أساسيًا من رغبة ترامب في الهيمنة ومطالبته بسلطات تنفيذية مطلقة. وتقصد النعوت التي تجردهم من إنسانيتهم -إرهابيون، غزاة غرباء، مجرمون، قتلة، بلطجية- إلى تصوير العدو بأنه لا يستحق حتى الدفاع الأخلاقي أو القانوني عنه. لماذا ندافع عن وحوش؟ ولماذا نتجادل بشأن فصل السلطات بينما نتعامل مع التهديد الذي يشكلونه؟
ولكن، على الرغم من خطاب ترامب العسكري، قد لا تبدو اعتداءاته حتى الآن مثل حرب، بالنظر إلى غياب التعبئة المنتظمة للقدرات العسكرية، ولأن مسرحها محلي في معظمه، ولغياب تبادل إطلاق النار بين طرفين. لكن حدود الحرب تم تجاوزها مسبقًا.
والعواقب مخيفة. باستدعائها "قانون الأعداء الأجانب" قامت إدارة ترامب بتجريد أعضاء عصابات فنزويليين مزعومين (بعضهم لم تكن له أي صلة بالعصابات) من حقوقهم القانونية، وقامت بتسليمهم لعمليات تعذيب مؤكدة بحكم الأمر الواقع في السلفادور. وقد يجد حتى مواطن أميركي نفسه في هذا الجحيم بالذات بلا وسيلة للإنصاف.
وصف البيت الأبيض مادورو بأنه "إرهابي" والعصابات الفنزويلية بأنها عملاء له. وبناءً على ذلك، أعدم البنتاغون تجار مخدرات مزعومين من المستوى المتوسط. وبخلاف ذلك كان ينبغي إخضاعهم لمحاكمات عادلة وأحكام مناسبة غير مميتة إذا ما ثبتت إدانتهم. حتى المحامون العسكريون المؤيدون لصلاحيات موسعة في "الحرب على الإرهاب" أصيبوا بالصدمة.
وربما يكون الأكثر شؤمًا هو تهديد ترامب المبتهج بإظهار معنى "الهجوم" لسكان شيكاغو. هناك يتجمع العملاء الفدراليون والجنود لتنفيذ ما وُصفت بأنها عمليات ضد الهجرة وضد الجريمة. ومهما يكن ما يتكشف، يبدو أن الهدف كان، في جزء منه، هو إخضاع معارضة القادة المحليين وقادة الولايات، الذين ينكرون وجود أي "حالة طوارئ" تستدعي مثل هذا التدخل. وقد تتم مواجهة الاحتجاجات القوية، حتى وإن كانت سلمية، بعنف شديد. بل إن ترامب ربما يخطط ويدبر لإحداث هذه المواجهة.
على الرغم من أن بعض القضاة الفدراليين رفضوا أكثر إجراءات ترامب تطرفًا، يبقى أن نرى ما هو تأثير أحكامهم الذي لم يتضح بعد. ثمة حُكم محكمة حديث ألغى استناد ترامب إلى "قانون الأعداء الأجانب" لملاحقة العصابات الفنزويلية، معتبرًا أنه لم يقع أي "غزو أو توغل عدائي". أما ما إذا كان هذا الحكم سينجو أمام المحكمة العليا، وما إذا كانت الإدارة ستلتزم به في الأثناء، فأمر غير واضح بعد. وكذلك حال حكم قاضٍ بولاية كاليفورنيا اعتبر أن تصرفات الحرس الوطني ومشاة البحرية الأميركية في لوس أنجيلوس غير دستورية لأنها تسللت إلى صلاحيات إنفاذ القانون المدني. ولا يوجد حتى الآن ما يشير إلى أن الحُكم سيقيّد العمليات العسكرية في شيكاغو.
لا يعترف البيت الأبيض، في مواجهة الهزائم القانونية، مطلقًا بأنه ربما تجاوز الحدود أو يتعهد باحترام القيود الدستورية التي يضعها القضاة أصحاب الضمير. وهو يرد دائمًا بشن هجمات لفظية على القضاة ووصفهم بأنهم "نشطاء"، "راديكاليون"، و"ماركسيون"، يمكّنون الشر نفسه الذي يعارضه ترامب. بل إن القضاة الذين يتحدون أجندة ترامب يتلقون تهديدات بالقتل -حرفيًا.
ربما يكون كل هذا الجدل القانوني بعيدًا عن النقطة الأساسية. لقد شوّه ترامب بشدة الحدود بين السلطات العادية والاستثنائية، وبين إنفاذ القانون المحلي والفيدرالي، وبين العمليات المدنية والعسكرية، وبين السلم والحرب. ونتيجة لذلك، لم يعد لدى القضاة أو المحامين أو السياسيين أو الشرطة أو الجنود أو الناس العاديين فهم آمن لمَن يملك قانونيًا الحقّ في أن يفعل ماذا، وكيف يمكن محاسبته إذا لم يفعل. وهو مناخ يغري بالفوضى القانونية والأخلاقية، وبارتكاب جرائم الحرب التي تشكل جزءًا من أي حرب.
ولا يكتفي ترامب باستدعاء لغة الحرب وجني صلاحيات "الحرب على الإرهاب" لتمكين أجندته. إن جزءًا من أجندته هو أن يكسب القدرة على خوض حرب مفتوحة بلا نهاية ضد أي طرف يُوسم بالعدو. ومن المرجح أن يطالب أي خليفة من حركة "جعل أميركا عظيمة مجددًا" بالحق نفسه.
وهذا الخطر يفرض الاضطلاع بمهام عاجلة.
أولًا وقبل كل شيء، يجب أن نأخذ ترامب على محمل الجد وبشكل حرفي بشأن تفاخره بخوض الحروب ضد "الأعداء" الأجانب والمحليين. على المحللين أن يتوقفوا عن تأملاتهم الكئيبة حول ما إذا كان ترامب حمامة أو صقرًا، أو مزيجًا غريبًا من نوع ما. يجب أن يعيد الكونغرس تأكيد سلطته الدستورية في أن يكون وحده الجهة التي يمكن أن تأخذ الأمة إلى الحرب. وربما يحتاج أيضًا إلى سن قوانين جديدة تحد من استخدام الجيش محليًا.
على الديمقراطيين أن يكونوا حزب معارضة حقيقيًا، وأن يتبعوا نموذج حاكم إلينوي، جيه. بي. بريتزكر، وعمدة شيكاغو براندون جونسون. لقد سمى هذان الرجلان بوضوح خطر التوغلات الفدرالية، بينما وصفا ترامب بأنه متنمر متهور. وفي الوقت نفسه، يجب على الديمقراطيين أن يعملوا لإقناع زملائهم الجمهوريين –حتى لو قلة منهم- بأن سلوك ترامب يهدد حرية الجميع.
يجب على المحكمة العليا أن تعيد النظر في موقفها المتهور المتمثل في التساهل مع السلطة التنفيذية. إن هذا التساهل يزيل القيود عن رئيس متحمس لإساءة استخدام سلطته للعبث بأقصى ممارسات السلطة: حرمان الآخرين من حريتهم وحياتهم.
بعد أن ظلت بطيئة ومترددة حتى الآن، على "المقاومة" أن تكثّف وتوسع رسالتها بسرعة. عليها أن تفكر في نفسها، جزئيًا، كحركةٍ مناهضة للحرب، تستجيب لسأم الأميركيين وتعبهم من الحرب، ورفضهم للفوضى، ورغبتهم في استقرار قائم على القواعد.
لقد رفض الأميركيون في معظمهم، مُحقين، الحرب اللانهائية الأخيرة. ويجب عليهم أن يرفضوا الحرب المقبلة أيضًا قبل أن يفوت الأوان.
*جيريمي فارون Jeremy Varon: أستاذ التاريخ في "ذا نيو سكول" ومؤلف الكتاب المرتقب "حزننا ليس صرخة للحرب: الحركة لوقف الحرب على الإرهاب" Our Grief is Not a Cry for War: The Movement to Stop the War on Terror، الذي تنشره مطبعة جامعة شيكاغو.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Trump Is Already at War
هامش:
**الحديث عن النقص العالمي في الرقائق (أشباه الموصلات) الذي يؤثر على السيارات، والهواتف، والحواسيب، وحتى الصناعات العسكرية. وهو سبب لـ"الحروب التكنولوجية" بين الولايات المتحدة والصين من أجل السيطرة على صناعة الرقائق، التي يصفها البعض بأنها حرب نهاية العالم الإلكترونية.