يعالجون المرضى بجرح نازف.. "أطباء الحروب" انتظار لموت مؤجل
الغد-ديمة محبوبة
في صبيحة الثالث عشر من تشرين الثاني الحالي، وهو اليوم الثامن والثلاثون لحرب الكيان الصهيوني على قطاع غزة، استشهد الطبيب الغزيّ همام اللوح، طبيب الكلى الوحيد في مستشفيي الشفاء وشهداء الأقصى.
اللوح قبل استشهاده، أجرى مقابلة مع صحفية أميركية معروفة تدعى إيمي غودمان، والتي سألته عن سبب عدم مغادرته المستشفى إلى مكان آمن في الجنوب، فأجاب "إذا غادرت من سيعالج المرضى؟ إنهم بشر يستحقون الرعاية الصحية وليسوا حيوانات"، مضيفا، "هل تعتقدين أنني درست الطب لأكثر من 14 عاما لأفكر في حياتي وأترك المرضى؟".
أطباء غزة، هم جيش الرداءات البيضاء، يتسلحون بالمعرفة والعلوم الإنسانية، يرافقون المقاومين الذين يحمون الأرض ببسالة وعزم، ويحملون راية أطباء الحرب.
طبقوا مقولة "وصل الليل بالنهار" بحذافيرها، عملوا في كل الظروف، عمليات من دون معدات تعقيم، ومن دون تخدير، وعلى ضوء الهاتف المحمول، في ظل إصرار جيش الاحتلال الإسرائيلي على استهداف المستشفيات، ومرضاها وكوادرها، في سابقة سيذكرها التاريخ، لأن الحروب في العادة تبتعد عن المراكز الصحية والمستشفيات وحافلات الإسعاف، ليسجل التاريخ أن غزة شهدت ما لم يشهده العالم بحروبه على مر العصور.
طبيب آخر شهد مجزرة على نحو خاص، ففي الـ 8 من تشرين الثاني الحالي، تفاجأ الطبيب الصيدلي إياد شقورة الذي يعمل وقت الحرب في غرفة الطوارئ، بوصول جثث أطفاله وأمه وأقاربه إلى المستشفى، بعدما قتلت عائلته إثر غارة إسرائيلية أصابت منزلا في خان يونس جنوب القطاع.
جيش الاحتلال الصهيوني تعامل بمنتهى الوحشية في حربه ضد قطاع غزة، فمنع إدخال الدواء، وشدة الإصابات استنزفت الأدوات الطبية كافة، ما وضع الطبيب أمام خيارات قاسية عليه وعلى المصابين.
صور الأطباء والمسعفين ومقدمي الرعاية الصحية، كطيور تلاحق أرواح المصابين لمنع فرارها من الأجساد، فأطباء غزة يصارعون لتضميد جراح المصابين وآلامهم، ويواسون من فقد أهله تحت القصف، يسابقون الزمن لمداواة من به بقايا روح.
كادر غزة الطبي شهد مجازر لا يمكن للعقل البشري استيعابها، لكنهم كانوا جنودا مترابطين تقف دموعهم في مقلهم، حتى مع رؤية إصابات واستشهاد أشخاص من أهلهم، يحملون المصابين بين أيديهم، وقد يتفاجأ أحدهم أن الوفاة ما هي إلا ابن أو أم أو أخت أو صديق، وقد يصارعون الشظايا، للتعرف على تفاصيل وجه المصاب، ليعرف هوية الشهيد لاحقا.
أطباء الحرب في غزة يصنعون الحياة على أرض يراها العدو وجدت للموت هي ومن عليها، فالكثير من المشاهد أظهرت ترابط هذا الجيش الأبيض، والذي كان همه الوحيد الحفاظ على الحياة، والقيام بدوره وما هو أكثر من حماية واحتضان لأوجاع الجميع والتصدي لمن نزحوا واعتقدوا أن المستشفيات هي الأكثر أمنا.
وها هو الطبيب غسان أبو ستة، البريطاني ذو الأصول الغزية، يركب طائرته ويأتي مع فريقه على جناح السرعة للوصول إلى مستشفيات القطاع ويبدأ بعلاج الجرحى والمصابين، والذي بقي حتى آخر حبة دواء في المستشفى المعمداني، "الأهلي العربي"، ثم غادره سيرا على الأقدام في رحلة امتدت 5 ساعات إلى مخيم النصيرات جنوب قطاع غزة.
أبو ستة كتب في منشور على منصّة "إكس": "لم أعد قادراً على إجراء عمليات في المستشفى الأهلي، المستشفى صار الآن فعلياً مركزاً للإسعافات الأولية، في المستشفى الآن مئات المصابين الذين لا يستطيعون الخضوع إلى جراحات، سوف يموتون بسبب إصاباتهم".
ويعاني أطباء غزة من أصعب قرارات البتر لحالات يسهل علاجها في الوضع الطبيعي، إذ قرروا الحفاظ على أرواح الفلسطينيين كاملة وإن كانت بأجساد بشرية مشوهة من حرب رعناء، فعند سماعهم لصوت صفارة الإسعاف، يقفون بانتظارها، متوقعين أخطر الإصابات وأصعب الجروح، ثابتين كمقاتل ينتظر فتح باب الحصن ليهاجم وهو لا يملك فكرة عن الشيء الذي يقبع خلف السور.
ويؤكد موقع أطباء بلا حدود، أن أطباء الحروب بعيدا عن كل المخاطر والمساعي التي يعيشونها تحت الحرب فعليهم أيضا أن يقفوا بوجه الأوبئة، إذ إنه يمكن أن يكون النزاع والنزوح محفزين للأوبئة وتفشي الأمراض، بسبب نقص المياه والصرف الصحي والرعاية الطبية، حيث أن العيش في ظروف صعبة وغير صحية يمكن أن يكون مكانًا مثاليًا لتكاثر الكوليرا أو الحصبة.
ويقول ممثل الرابطة الأوروبية الشرق أوسطية الدولية في الأردن وخبير الأوبئة الدكتور محمد الطراونة، إن مهنة الطب هي أقدم المهن بالتاريخ، ومهمتها المحافظة على الحياة وهي مجبولة على الإنسانية، والحفاظ عليها، ولذلك الأطباء هم خط الدفاع الأول في الحرب والسلم، وفي كل الظروف وهم من يسمون بالجيوش البيضاء، وفحوى مهنة الطب دعم الحياة والمحافظة عليها.
ويضيف أن الأطباء في قطاع غزة تعرضوا لضغوط جبارة فأمامهم الكثير من المآسي والحوادث ما لا يتقبلها البشر العاديون ولا يستوعبها العقل، وعليهم أن يعملوا بروح الفريق، والصعب هو اتخاذ القرار المؤلم، فطبيب الحروب يتخذ أصعب القرارات، وتحديدا تحت ظلم الكيان وعدوانيته بمنع الدواء والمخدر وقصف ما وجد من أدوات وأماكن الشفاء، وعليهم اتخاذ قرارات الموت والحياة، بسبب عدم وجود علاجات كافية وأدوات طبية تساعد على الرعاية الطبية، والاختيار حسب التقديرات الطبية والسريرية.
ويذكر أن توجيه الإمكانيات لمن هم أقل حظا في الحياة هو قرار غير سهل وأثره النفسي كبير.
وتتحدث الأخصائية النفسية عصمت حوسو بأن الطبيب إنسان بالأساس، لكن مهنته تحتم عليه التدرب على مهارة الفصل بين عواطفه وما يحتاجه الواقع والمعطيات الطبية، "لذلك نجد أن الأطباء بالوضع الطبيعي ذوو صلابة في شرح الحالة وما يفيد المريض، لكن في حالة الحروب، الموضوع أكثر تعقيدا وخصوصا الحرب على غزة التي لم يشهد مثيلها أحد في العالم، فالطبيب كان طبيبا وحاميا، ومسؤولا بأدوات ومرافق صحية غير مناسبة ومستهدفة من العدو الصهيوني.
وتبين أن الطبيب في غزة شعر أنه مسؤول ومحتضن وعليه أن يكون أقوى لكثرة المسؤوليات عليه، وبالتالي فإنه سيعاني من أزمات وصدمات ما بعد الحرب فهو كأي إنسان يخاف ويقلق، ويتذكر ما حدث، لكنهم بالعادة أقوى وأكثر صلابة من الشخص العادي.