الغد
مرّت سنة على تغيير النظام في سورية، وهو حدث أعاد رسم المشهد السياسي والأمني في المنطقة وترك انعكاسات واسعة على الدول المجاورة، وفي مقدمتها الأردن الذي تجمعه بسورية حدود طويلة وروابط اجتماعية واقتصادية وأمنية متشابكة. فقد كان واضحًا منذ الأيام الأولى للتغيير أن التحولات في سورية لن تبقى محصورة داخل حدودها الجغرافية، بل ستنعكس بصورة مباشرة على أمن الأردن واستقراره، بحكم القرب الجغرافي والتداخل السكاني والاعتماد المتبادل في ملفات عديدة.
تعيش سورية بعد عام من التغيير حالة من إعادة التشكل على المستويين السياسي والأمني. فالدولة ما تزال تعاني من ضعف في بنيتها المؤسساتية نتيجة سنوات الصراع الطويلة، الأمر الذي يحد من قدرتها على استعادة السيطرة الكاملة على أراضيها ويترك مناطق واسعة عرضة لوجود قوى محلية متباينة الولاءات. هذا الواقع يخلق تحديات مستمرة للأمن القومي السوري، إذ تتعدد مصادر التهديد من جماعات مسلحة غير نظامية، ومن شبكات تهريب، ومن تدخلات خارجية متشابكة، وكل ذلك يجعل استقرار سورية هدفًا يحتاج إلى وقت أطول وجهود أكثر تماسكًا.
وما يزيد من تعقيد المشهد أن الأزمة الاقتصادية السورية مستمرة بلا انفراج واضح، ما يفاقم معاناة السكان ويولد موجات متجددة من النزوح الداخلي والخارجي. فالضغوط الاقتصادية ترتبط عادة باضطرابات اجتماعية وأمنية، وهو ما يجعل البيئة داخل سورية هشّة وقابلة للاهتزاز عند أي متغير مفاجئ. كما أنّ الحدود السورية ما تزال تشهد حالات من الانفلات في بعض المناطق، الأمر الذي جعلها ممرًا محتملًا لتهريب السلاح والمخدرات والبضائع غير المشروعة. وقد أصبحت هذه الظاهرة واحدة من أبرز التحديات التي تواجه الأمن القومي السوري، بحكم ارتباطها بشبكات منظمة تتجاوز قدرة الدولة على مكافحتها بسهولة.
هذه التحديات لا تقف عند حدود سورية، بل تمتد بصورة طبيعية إلى الأردن الذي تأثر بشكل مباشر خلال العام الأول من التغيير، إذ أصبح أمن الحدود الأردنية - السورية ملفًا يحتاج إلى متابعة مستمرة وإجراءات احترازية متزايدة، خصوصًا في ظل تكرار محاولات التسلل والتهريب التي تستغل الفجوات الأمنية على الجانب السوري من الحدود. وقد برزت تجارة المخدرات على نحو خاص كتهديد متصاعد يؤثر على الأمن الوطني الأردني ويستنزف قدرات أجهزته في عمليات المراقبة والتصدّي لهذه الأنشطة غير المشروعة.
إضافة إلى ذلك، ما يزال الأردن يواجه تبعات الأزمة السورية من خلال ملف اللاجئين الذي يشكل ضغطًا مستمرًا على بنيته الاقتصادية والخدماتية. فمرور عام إضافي دون استقرار في سورية يعني استمرار بقاء ملايين السوريين خارج وطنهم، وهو ما يفرض على الأردن أعباء كبيرة في قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية وسوق العمل. كما تظل احتمالية حدوث موجات نزوح جديدة قائمة في حال تدهور الأوضاع في أي منطقة سورية، وهو سيناريو يزيد من حساسية الوضع الأردني.
ولا تقتصر الانعكاسات على الجوانب الأمنية والاجتماعية، بل تمتد أيضًا إلى الساحة الاقتصادية والسياسية. إذ كان التبادل التجاري بين الأردن وسورية يعتمد تقليديًا على الاستقرار الحدودي وقابلية الطرق البرية للعمل دون تهديدات، ولكن استمرار الاضطرابات داخل سورية أعاق عودة العلاقات التجارية إلى وضعها الطبيعي. وبذلك خسر الأردن جزءًا مهمًا من الحركة التجارية التي كانت تربط أسواقه بتركيا ولبنان وأوروبا عبر الأراضي السورية، وهو ما أثّر بدوره في بعض القطاعات الاقتصادية الأردنية.
وفي البعد السياسي، فإن التغيير في سورية ترك أثرًا واضحًا على توازن القوى في المنطقة. فاختلاف خارطة التحالفات وتعدد اللاعبين الإقليميين والدوليين داخل سورية خلق بيئة سياسية معقدة قد تحمل في طياتها فرصًا وتحديات معًا بالنسبة للأردن. فالأردن يجد نفسه مضطرًا إلى متابعة دقيقة للتطورات على الساحة السورية لضمان عدم ظهور ترتيبات سياسية جديدة تتعارض مع مصالحه أو تهدد استقراره.
إن مرور عام على التغيير في سورية يوضح بجلاء أن الأمن القومي السوري والأمن الوطني الأردني يشكلان منظومة مترابطة لا يمكن التعامل معها بمعزل عن بعضها. فاستمرار الاضطراب داخل سورية يعني استمرار الضغوط الأمنية على الأردن، سواء عبر الحدود أو عبر ملفات اللاجئين أو عبر التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية غير المباشرة. وتتضاعف هذه الضغوط مع التدخلات الإسرائيلية المتكررة في الجنوب السوري ومحاولاتها التأثير في توازن القوى هناك، الأمر الذي يهدد الاستقرار الحدودي ويخلق فراغات قد تستغلها شبكات تهريب أو جماعات غير منضبطة. كما أن بوادر الحركات الانفصالية في بعض المناطق مثل السويداء تزيد من مخاطر تفكك الدولة السورية، ما يجعل الأردن أمام احتمال ظهور كيانات غير مستقرة قرب حدوده الشمالية. لذلك يشكل استقرار سورية خط دفاع أساسيًا للأردن، لأنه يقلل من المخاطر العابرة للحدود ويعيد الحيوية إلى العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين البلدين.
وبذلك يمكن القول إن العام الأول بعد التغيير كشف عن حجم التداخل بين الطرفين، وأثبت أن مستقبل الأمن في المنطقة يعتمد على قدرة سورية على استعادة استقرارها وقدرة الأردن على التعامل بمرونة مع المتغيرات الإقليمية. فالتعاون المتبادل، وتفعيل قنوات التواصل، ودعم جهود إعادة بناء الدولة السورية تمثل جميعها مسارًا منطقيًا لتعزيز الأمن والاستقرار في البلدين، وبما يخدم مصالحهما المشتركة في مواجهة التحديات التي فرضها الواقع الجديد.