عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    05-Dec-2019

الصحافة الحرة وحُكم القانون..! - علاء الدين أبو زينة

 

الغد- لدى مشاهدة محطات التلفزة اللبنانية لمتابعة التطورات في البلد الشقيق، يلاحظ المشاهد نوعاً فريداً من الصحافة. الآن تعيد بعض هذه المحطات عرض تحقيقات استقصائية جريئة للغاية كانت قد عرضتها في أوقات سابقة وتضعها في السياق. ويعمل الصحفيون الاستقصائيون هناك مثل المحققين الجنائيين؛ يتخفون ويستخدمون الكاميرات وأجهزة التسجيل المخفيّة، ويساعد الصحفي فريق يؤدي أفراده مهاماً مرسومة. كما يتمتع هؤلاء الصحفيون بحماية مؤسساتهم ودعمها من البداية حتى البث.
على سبيل المثال، يحقق صحفي في شبكات الفساد في الجمارك، ويصل إلى مدير الدائرة نفسه. وفي التحقيق، يُرسَل أشخاص لإنجاز معاملات وعرض رشاوى ويتم تصوير الموظفين والمسؤولين أثناء تلقيها. وينشئ الصحفي ملفاً مزوداً بالسير الذاتية للمتورطين وتواريخهم الشخصية، مدعوماً بالوثائق التي حصل عليها بأي طريقة. وفي النهاية، يبني قضية قانونية كاملة بالأحداث والأسماء، وينشرها في تقرير متلفز يشاهده الجمهور والقضاء.
وفي مثال آخر، يحققون في قضية تزوير لأدوية السرطان، ويعرضون وثائق منها واحدة موقعة من وزير الصحة نفسه تسمح باستيراد أدوية غير أصلية. ويطال التحقيق مدير مستشفى وأطباء وصيادلة وصيدليات ومسؤولي مختبرات. وبعد عرض التقرير، يتقدم ذوو المرضى الذين ربما تلقوا مثل هذه الأدوية بدعاوى قضائية على المذكورين في التحقيق.
الملفت في القضايا الكثيرة هناك أنها تذكر بالأسماء رجال أعمال كباراً، ومسؤولين كباراً، وأحياناً رؤساء حزبيين في لبنان المعروف بتعقيد تركيبته وسلطة زعاماته الفصائلية. ومع ذلك، يقارع الصحفي الرجل النافذ على الشاشة ويتحداه بالوثائق والأدلة. ويتولد انطباع لدى المشاهد بأن هؤلاء الصحفيين شجعان وحقيقيون، يغامرون بأرواحهم من أجل الحقيقة. والغريب أن أحداً لم يشتكِ من هجوم “زعران” نافذ عليه.
في الأصل، تشكل مثل هذه التحقيقات الجريئة صفوة عمل الصحافة، إذا كانت لتخدم شيئاً غير نشر الأخبار العادية، وتساهم في تعزيز الديمقراطية ومكافحة الفساد. وفي الحقيقة، أشار بعض الصحفيين الذين أجروا هذه التحقيقات في لبنان إلى أن السلطات القضائية لم تلاحق المتورطين، برغم قوة الأدلة، أو أن القضايا تتعثر طويلاً في أروقة المحاكم بقصد تنويمها. وفي حالات أخرى، تحرك النائب العام لمحاسبة المعنيين وقامت السلطات بتوسيع التحقيقات.
كل صحفي مخلص يطمح إلى فتح ملف كبير من هذا النوع ومتابعته حتى النهاية. لكن الصحفي لا يستطيع أن يقطع أي مسافة مفيدة إذا لم تتوفر إرادة الاستفادة من دوره الرقابي المساند في حال ساد اتجاه حقيقي نحو الإصلاح وشفاء العلل. وستأتي هذه الإرادة أولاً من شعورٍ مسؤول بأن فتح الملفات سيكون ضمانة لعدم تدهور البلدان إلى قيعان الفوضى، وقناعة قسم مهم من السلطة بسحب الغطاء عن منتسبيها وفتح دفاترها للتدقيق والسؤال.
لكنّ الأساس والجدوى من هذا العمل الصحفي الضروري يتحددان بشرطين حاسمين: حرية التعبير، وحكم القانون. ربما يصل صحفيون إلى كثير من المعلومات، لكنهم لا يستطيعون إذاعتها خوفاً من ملاحقتهم بتهمة التشهير إذا ذكروا أشخاصاً نافذين –أو حتى اتهامهم بتثوير الشارع وتهديد الاستقرار، أو استهدافهم بالتهديد الشخصي وإيذائهم. كما يُحرمون من حق الوصول إلى المعلومات بشتى الذرائع لإحباطهم وتعقيد مهمتهم.
من جهة أخرى، يعني حكم القانون ألا يكون أحد فوق القانون ومنزهاً عن المساءلة. وفي الحالات المثالية التي تمارس الصحافة فيها أدوارها الاستقصائية بلا قيود، سوف يفكّر أصحابُ القرار قبل الإقدام على مخالفات ربما تتكشف بطريقة لا تُحمد عقباها. وسيضمن ذلك أداء عاماً أفضل لأي بلد، وسوف يَحُدُّ من المحسوبيات والواسطات، ويشجع العدالة في الفرص، ويُحسِّن الخدمات، والاستفادة من المال العام، ويطال كل زاوية ومجال يمكن التفكير فيه.
لم تستطع الصحافة الاستقصائية الجريئة في لبنان إنقاذ البلد من الفساد المتطرف، لأن الشق المتعلق بحكم القانون قاصر. هناك، تصل حصانة المسؤول، سواء بحكم المنصب أو وجود “ظهر” حزبي أو طائفي يحميه، إلى جعله غير عابئ بالفضيحة العامة ولا يرى الجمهور ولا رأيهم. ويكون القضاة والمدّعون بلا سلطة لأن تعييناتهم نفسها تخضع للمحاصصة وتُلزمهم بسقوف الطوائف والأحزاب ومراكز القوة. ولذلك، لا معنى للتفكير في عدالة وديمقراطية بدون صحافة استقصائية حُرة، مدعومة بحكم القانون.