عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    31-Aug-2025

أن تفكر كفلسطيني..! (6)*علاء الدين أبو زينة

 الغد

كانت فكرة المقالات تحت العنوان الكبير أعلاه في الأساس هي محاولة عقلنة أنماط تفكير الفلسطيني –أو مَن يضع نفسه في محل الفلسطيني- في الوقت الراهن، بعد تأسيسها في بعض السياق التاريخي. لكنّ الأحداث المتعاقبة تقاطع السرد وتُداخل عليه بـ”نقطة نظام”. في النهاية، من العبث محاولة إنتاج سرد “متساوق ومترابط” في سياق مكاني وتاريخي غاصّ بمختلف أنواع المغالطات المنطقية والتاريخية. 
 
 
في مقابلته مع القناة (آي 24 نيوز)، عرض المضيف على نتنياهو تميمة؛ خريطة مصغرة لما تُسمى “أرض الميعاد” –التي تشمل كل فلسطين التاريخية، بالإضافة إلى كل -أو أجزاء من- الأردن، وسورية، ولبنان، والعراق، والكويت، والسعودية. وحين سُئل عن مدى ارتباطه بهذه الرؤية، رد مرتين بكلمة “بالتأكيد”، ووصف الخريطة بأنها تمثّل ما يراه “إسرائيل الكبرى”. وقال: “أنا في مهمة تاريخية وروحية”، مشيرًا إلى انخراطه في مسعى لتحقيق رؤية امتدت لأجيال من “الشعب اليهودي”، والتي ستستمر بعدها أيضًا. وأضاف: “هناك أجيال من اليهود حلمت بالقدوم إلى هنا، وأجيال من اليهود ستأتي بعدنا.. إذا سألتَني عما إذا كنت أشعر بأنني في مهمة تاريخية وروحية، فالجواب هو: نعم”.
لم يكن في ما قاله نتنياهو أي جديد. لم يقل شيئا ابن لحظته –لا في سياق المقابلة ولا المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. كانت “إسرائيل الكبرى” شيئًا بدأ مع المشروع –أو بدأ المشروع به. فقد استند المشروع كله إلى قراءات سياسية/ دينية في أساسها استعادة “أرض الميعاد” التوراتية. ومن الغريب أن تغيب عن الذهن حقيقة أن مشروعا استعماريا هدفه الأول هو الأرض لن يجد مرجعية روحية يحشد عليها يهود العالم أفضل من “إيمان العجائز” بالآية التوراتية 18:15 في “سفر التكوين”: فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلًا: ’لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ”.
كانت “استعادة” هذه الأرض الموعودة كلها، كما تصفها الآية، شيئا في صلب الإيمان الديني الذي جعل الصهاينة الأوائل يتركون أوطان آبائهم وأجدادهم إلى أرض غريبة لتحقيق ما يرونه مشيئة الرب وأعطيته. ومن البديهي أن تظل “أرض الميعاد” شعار المشروع وغايته، حيث فلسطين قاعدة الانطلاق فحسب.
في يومياته التي أصبحت كتاب “يوميات هيرتزل” (1904)، كتب ثيودور هيرتزل، مؤسس الصهيونية السياسية: “علينا أن نمتلك الأرض من وادي مصر إلى الفرات”. وبعد 44 عامًا من ذلك أكد مناحيم بيغن الفكرة، وقال في الكنيست في العام 1948: “إسرائيل لن تكون مكتفية بالمساحة الحالية. إن حدودنا هي حدود أرض إسرائيل التوراتية”. وفي الكُتيّبات التعليمية للمدارس الدينية اليهودية يعلمون الأطفال عن “إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات” باعتبارها غاية حياتهم. وليس من المعقول أن يكون العرب غير واعين لطبيعة المشرع الاستعماري الاستيطاني ونزعته التوسعية بحيث “تفاجأوا” بنوايا جديدة.
في العام 1964 تحدث جمال 
عبد الناصر عن “إسرائيل الكبرى” في “مؤتمر المبعوثين العرب” كهدف صهيوني توسعي، وقال أن الكيان يسعى إلى التمدد على حساب الأراضي العربية. وفي العام 1974، في خطاب أمام “مجلس الشعب” المصري، أكد أنور السادات أيضا أن الكيان يسعى إلى السيطرة على المنطقة بأسرها من خلال مخطط استراتيجي طويل المدى. وقال أن فكرة “إسرائيل الكبرى” ليست وهما، وإنما سياسة واضحة تقوم على الاحتلال العسكري والتوسع الاستيطاني. وأشار  إلى أن هذه الفكرة تشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي العربي وتقوّض أسس الاستقرار في المنطقة. 
وإذن، كان المفاجئ الوحيد هو الطريقة التي استجاب بها العرب لتصريح نتنياهو وكأنه مفاجئ وجديد. أما ما كان غير مفاجئ على الإطلاق فهو الرد بالطريقة التي تم بها –متوقعا كما هو حسب نص الكتاب. لقد رد العرب في الحقيقة -فرادى، وجماعة في شكل الجامعة العربية- فأدانوا تصريحات نتنياهو “بأشد العبارات”، واعتبروها استباحة لسيادة الدول العربية وتهديدًا لـ”الأمن القومي العربي الجماعي”، وتعكس “عقلية متطرفة غارقة في أوهام استعمارية”. كما ناشدوا “مجلس الأمن” مطالبينه بالتصدي لها فورًا.
من المشروع أن يؤول مراقب على دراية بالسياق هذا الرد بشيء من قبل: الكل يعرفون أن هذه فكرة مشروعكم وهدفه. ولكن، حبذا لو أنكم لا تُعيدون تعريف المعروف وتعلنونه في الإعلام في وقت حرج. ربما يفكر أحد بتطبيعنا لكم وشرعنتنا لكيانكم وكأنها عمل ضد وجودنا وأمننا الوطني والقومي، أو يظنه، لا سمح الله، تسهيلات لإنجاز مشروعكم الكبير بتثبيتكم –فتثبيته. لكم هذا مُحرج ويصعب الدفاع عنه”!
غني عن القول أن الإدانات، “بأشد العبارات” أو أكثرها رقة، هي كلها موسيقى عذبة على آذان نتنياهو وكل أفراد المشروع الاستعماري الصهيوني. إنها البديل الكلامي عن فعل شيء عملي، ويمكن فهمهما باطمئنان كعتب محبين. ومناشدة “مجلس الأمن”؟ لا أدري في الحقيقة! أما “معاقبة” نتنياهو و”قهره” وتسفيه أحلامه بوصف فكرته بأنها “غارقة في أوهام استعمارية”، فالوهم ذاته مجسدا. كيف يمكن وصف ما حققته الصهيونية وما تحققه كل لحظة بـ”الوهم”؟! حقا؟!
بالإضافة إلى استعمار فلسطين -كل فلسطين مهما يتم التحايل على الحقيقة- يتمدد الكيان الآن إلى جنوب لبنان، وجنوب سورية، ويضع مستوطنوه حجارة أساسات لمستوطنات قادمة هناك بحماية جيشهم؛ باستسلام مطلق من البلدين وموافقة ضمنية من البقية -بل ومساعدة البعض في تهيئة بيئة مضيافة بلا أي دفاع أمام المستوطنين ليغرسوا في تراب عربي آخر علم كيانهم. والعلم نفسه، بالنهرين الأزرقين وما بينهما -يعني”لوغو” “إسرائيل الكبرى التوراتية” وتعريف المشروع ومعناه- يرتفع مُسبقًا –وليس هذا سرًا- حيث لا ينبغي أن يُرفع في أرض العرب.
هل يمكن تصوُّر رد فعل مختلف. يمكن تصور شيء، برغم الأضداد. وللحديث صلة.