عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    04-Dec-2018

تتلمذ على يديه عبدالوهاب والشيخ إمام درويش الحريري .. الشيخ المعلم لكبار الموسيقيين العرب

 الراي - أبواب - زياد عساف من طبيعة الانسان، نسيان اغلب ما يمر على حياته من مثيرات وحواس، ربما كانت تدغدغ مشاعره وابداعاته او شكلت شخصيته العاطفية او الانسانية والحضارية.

..والغناء العربى الحديث والقديم، تكون من استعراض وأداء ألحان مختلفة ومقامات موسيقية تنوعت عبر شخصيات الغناء العربي ورموزه في مجالات الغناء والتلحين والتوزيع والموشحات ومختلف الاشكال الموسيقية الشرقية والعربية الاسلامية. ان البحث في المنسي من تراث الاغنية العربي، هو نبش في القوالب الغنائية القديمة، التي باتت مع جهود مبدعيها منسية الى حد ما. الباحث والكاتب زياد عساف ظل يقلب ما نسي من الرموز والاغاني والحكايات وخص ابواب - الرأي بثمرات جهودة التي تنشرها منجمة كل ثلاثاء في هذا المكان من الملحق حيث سيتم طباعته على اجزاء في القاهرة. لقد ارتقى الغناء العربي مع ظهور الحركة القومية العربية فى مواجهة الثقافة التركية السائدة على يد الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب وعبده الحامولى ومحمد عثمان، عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وطروب وفيروز وام كلثوم كما لحن وابدع جماليات حياتنا وفنوننا امثال: سلامة حجازى وابراهيم القبانى وداود حسنى وأبو العلا محمد وسيد الصفتي محمدالقصبجى وسيد درويش وزكريا أحمد ومحمود صبح ومحمد عبد الوهاب، ورياض البندك وجميل العاص ومحمد القبنجي وغيرهم كثر.
“البصيرة“ كانت هي العين الثالثة التي حباه االله بها بعد أن فقد عينيه، وأضحت الملهم و المحرك في كل ما أبدعه من ألحان رائعة تنوعت مابين الموشحات و الأدوار و الطقاطيق، بالإضافة لأدائه الجميل، و على يديه تتلمذ كبار الموسيقيين الذين نهضوا بالأغنية العربية لغاية سبعينيات القرن العشرين، إلا أنه من النادر أن أشار أحدهم بيده على صدره في يوم ما وأعلن باعتزاز: أنا تلميذ درويش الحريري!.
الجمالية..
التجول في حي الجمالية بالقاهرة يعكس متعة فريدة قلما يجدها الإنسان في أماكن أخرى، يلمسها كل عاشق و باحث عن الأماكن و ذاكرتها العابقة بأسماء كبار الفنانين ممن ولدوا وعاشوا في هذا الحي، وفي مقدمتهم درويش الحريري الذي أبصرت عيناه النور في عام “1881 ، ”إلا أن إرادة االله شاءت أن لايدوم هذا النور طويلاً، وفقد إحدى عينيه في السنة الأولى من عمره، وفقد العين الثانية في سن الأربعين، وما بين هاتين الحادثتين حكايا كثيرة شكلت محطات مهمة في حياته، فعندما أتم الثلاث سنوات أرسله والده لشيخ كتَّاب الحي أبو الهاشم ليتولى تحفيظه القراّن الكريم، واستمر في كنف معلمه لمدة ست سنوات حتى أتم حفظ القراّن وهو في التاسعة.
تابع الأب مهمة تعليمه و ألحقه في الأزهر الشريف، وبدأ المرحلة الأهم وهي تجويد القراّن و هذه المرة على يد الشيخ مبروك حسنين، و تولى هذه المهمة فيما بعد معلمه و أستاذه الشيخ علي سبيع.
نهل من العلوم الدينية و اللغة العربية الكثير، ولم يمنعه ذلك عن شغفه بالغناء والموسيقى بعد أن طغت هذه الهواية على اشياء كثيرة في شخصيته، من هنا توَّلد الدافع لديه بتعلم نظريات و مبادئ الموسيقى العربية على يد علي محمود أحد أهم شيوخ الموسيقى وقتها، لم يكتف بذلك وراح ينهل علومه من أساتذة الموسيقى الكبار آنذاك أمثال عبد الرحيم المسلوب وكامل الخلعي و داود حسني و ابراهيم المغربي، ليجد نفسه وقد استزاد من المعرفة و الموهبة في مجال الموسيقى ما أهله للتدريس، وبدأ يتعلم على يديه الكثيرون ممن أصبحوا من أعلام هذا الفن وقتها، أمثال الشيخ عبد السميع بيومي والشيخ سيد الطنطاوي.
الكفاءة و الخبرة التي وصل إليها كموسيقي أحدثت نقلة كبيرة في حياته، وتمثل ذلك بصدور قرار تعيينه كأستاذ في معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، و أوكل إليه تدريس الموشحات الأندلسية، ومن خلال تواجده بهذا الصرح تخرج على يديه أيضاً عدد ليس بالقليل من الموسيقيين الذين أصبحوا رموز هذا الفن، ممن ذاع صيتهم من المحيط للخليج بفترة القرن العشرين تحديداً.
رأيت خياله في المنام..
موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب كان واحداً من تلامذته، مراجع كثيرة أشارت لهذه المعلومة، ولا بد من التوقف هنا عند ما ذكره الكاتب خيري شلبي بهذا الخصوص في كتابه ( صحبة العشاق)، ويؤكد من خلاله أن درويش صاحب التأثير الأكبر في تشكيل شخصية عبد الوهاب الفنان، وبالرغم مما عرف عن الأخير بالوسواس من ناحية النظافة تحديداً، إلا أنه وبذكائه المعهود واظب على الذهاب للمكان المتواضع الذي يقيم فيه درويش الحريري، و ظل على مضض يحتمل دخان الشيشة التي لاتفارق مبسم معلمه، وما يتبعها من كحة و سعال، ومع ذلك كان يتحامل على نفسه كل هذه الساعات نظراً للخبرة والمعرفة الموسيقية التي سيجنيها من هذه اللقاءات المتكررة مع أستاذه، لدرجة أن موسيقار الأجيال قد صرح بأنه لو كان جالساً مع أستاذه الحريري وجاءته دعوة من إحدى الأميرات المتوجات، لرفض ذلك مفضلاً عليها صحبة معلمه، والإستزاده من موهبته الفريدة والتي منها أسس لانطلاقته الفنية المتميزة التي لايختلف عليها إثنان، ويشهد على ذلك النجاح الذي حققه موسيقار الأجيال عندما غنى عام 1928 :احب اشوفك كل يوم من ألحان الحريري، خاصة وهو يردد المقطع الشهير: رأيت خياله في المنام.. ما احلاه يا وعدي.
علم بارز من اعلام الموسيقى العربية لابد من التوقف عنده كأحد تلاميذ ه وهو الموسيقار الفذ زكريا أحمد، تتلمذ هو الاّخر على يد الحريري ولمدة عشر سنوات، ونهل منه علوم الموسيقى و أوزانها وأصول الإنشادالديني و التواشيح، ولم يكتف بذلك وألحقه ببطانة الشيخ علي محمود، ومن الأخير استزاد زكريا أيضاً من بحر الموسيقى والتلاوة و التسابيح بمقاماتها الثرية المتنوعة، وفي الوقت نفسه ساهم الإثنان (درويش و علي محمود) بتقديمه لإحدى شركات الإسطوانات في أوسط العشرينيات من القرن الماضي، وممن تعلموا وتأثروا بفن الحريري ايضاً، أبو العلا محمد و الشيخ رفعت و الشيخ إسماعيل سكر وعبد الحليم نويرة والموسيقار رياض السنباطي و أحمد صدقي و الشيخ اسماعيل سكر .
الشيخ إمام.. التلميذ الوفي
الشيخ إمام (1918-1995 (ظل التلميذ الوفي لأستاذه درويش الحريري، ولم يتوان عن ذكر أفضاله كل ما أتيحت له فرصة للتعبير من خلال وسائل الإعلام المرئي و المسموع، وفي لقاء مسجل أجرته معه الأديبة صافيناز كاظم عام 1975 ومثبت على المواقع الألكترونية، تحدث عن بداية تعارفه بأستاذه عندما جمعتهما الصدفة في حي (حوش قدم ) بالغورية، و في صالون الحلاقة الذي اعتاد أن يتردد عليه الحريري، وجاء هذا اللقاء في التوقيت المناسب بالنسبة للشيخ إمام بعد أن تم رفده من الجمعية الشرعية السنية التي انتسب إليها بعد ضبطه من قبل زملائه وهو يستمع لتلاوة الشيخ محمد رفعت من الراديو ، لاعتبارهم أن هذا الجهاز من المحرمات كونه بدعة حسب إعتقادهم، ما أثار غضب والده منه بعد معرفته بنبأ فصله، ومنعه من العودة لبيت العائلة في قرية أبو النمرس، احتواه الحريري وقتها وشاله على كفوف الراحة كما ذكر إمام في اللقاء ذاته، بعد أن اُعجب بصوته وبدأ يصطحبه في جلسات الإنشاد و المغنى ومنها ما كان يقيمها في بيته في (حي التبانة) بمنطقة الدرب الأحمر، وعلمه الموسيقى ومقاماتها وعزف العود من خلال النوتة الموسيقية، وتعمق بفن الإنشاد و الغناء الديني و حفظ الكثير الأدوار و الموشحات القديمة، و فن الإرتجال كان أكثر ما تأثر به الشيخ إمام من الحريري، و يلحظ المستمع ذلك بلمسات إمام الخاصة المضافة للألحان التي يؤديها، سواء كانت من ألحانه أو من التراث القديم .
وعودة لحديثه مع صافيناز كاظم و في رده على استفسارها عن سبب جحود أغلب تلاميذه و عدم ذكرهم لأفضاله عليهم ، أكد الشيخ إمام خلال هذا اللقاء أن على رأس هؤلاء محمد عبد الوهاب الذي يتجنب الحديث عن فضل الحريري عليه، وإن جاء على ذكر اسمه فذلك باعتبار أنه هو صاحب الفضل عليه وليس العكس .
في الوقت نفسه عُرَفَ عن درويش الحريري طباعه الحادة وتشبثه برأيه بحيث لايقبل الحوار مع الطرف الاّخر، عدا عن موقفه الصريح غير المجامل، خاصة عندما يبدي رأيه في غيره من الموسيقيين أو المطربين، ولايمكن إغفال هذا السبب بإحجام الأغلبية عن التواصل معه.
صفاء الأوقات في علم النغمات..
لم تتوقف إنجازاته على من تخرجوا على يديه، وكان له العديد من الماّثر التي تثبت حرصه و غيرته على الموسيقى العربية، ومهرجان القاهرة للموسيقى العربية 1932، شاهد آخر على منجزاته عندما سجل بصوته العديد من الموشحات و الأدوار القديمة ليستمع إليها الوفود المشاركة بالمهرجان من معظم البلاد العربية و الأجنبية، وكان يهدف من هذه الخطوة تعريف الحضور باختلاف جنسياتهم عن ثراء و تميُّز الموسيقى العربية، وفي الوقت نفسه الحفاظ على التراث الغنائي العربي القديم وحمايته من الضياع، كما جرى بالعديد من البلاد و عانت منه قوميات كثيرة على امتداد العالم .
أصدر الحريري ومن تأليفه كتاب : صفاء الأوقات في علم النغمات، وهو من الكتب النادرة و المهمة من حيث الموضوع وتثري المكتبة الموسيقية العربية، يتطرق في هذا الكتاب للعلاقة بين النغمات و الأوقات الأنسب التي تؤدى فيها حسب ساعات النهار و الفصول و الطوالع الفلكية.
يحسب له أيضاً حرفيته العالية باجتهاداته اللحنية، و استخدامه لمقامات موسيقية وبتوظيف مختلف لم يسبق أن تطرق لهذا أحد غيره، عرف عنه أيضاً الجانب الإنساني بتعاطفه مع هواة الموسيقى الكفيفين ’ خاصة أنه واحدٌ منهم، وتلقوا منه الرعاية و الإهتمام، وتعلموا على يده كغيرهم فن الموشحات و الإنشاد الديني و العزف على العود، وكان ملتقاهم في بيته بحي التبانة بالدرب الأحمر.
حبي زرني..
ما يدعو للإستغراب أن الحريري لم يكن يجيد العزف على أي آلة موسيقية، ومع ذلك أضاف لأرشيف الغناء العربي كنوز ثمينة من الموشحات و الأدوار و الطقاطيق التي ارتبطت بإسمه وغناها بصوته تنوعت مابين أعمال كثيرة من ألحانه، ومنها من الموروث الغنائي و أضاف عليها بدوره من حيث الإرتجال والتوزيع والتفنن بالأوزان الموسيقية، بالإضافة لاستعادته للعديد من الألحان القديمة كما سبق .
من ألحانه الشهيرة والتي غناها بصوته موشح: حبي زرني ما تيسر، وكما يبدو فإن لهذا اللحن سحراً خاصاً و ثراء موسيقي لا يقاوم فلقد غناه العديد من المطربين أمثال: محمد عبد الوهاب و الشيخ إمام و محمد قنديل و كارم محمود، ومن الجيل الحالي أدته باقتدار الفنانة اللبنانية ريما خشيش، بالإضافة لفرقة الموسيقى العربية والتي استعادت في أمسياتها أيضاً العديد من أعمال الشيخ الحريري، ومن أهم الموشحات و الأعمال الغنائية التي قدمها وأثرى بها المكتبة الموسيقية العربية:
أنت سلطان الملاح، بدا وفي كفه، هجرني حبيبي، بالذي أسكر من عرف اللما، إشفعوا لي عند حبي، قم و لازم، محبوبي قصد نكدي، أفرغ الروض، إملا و اسقيني، جعلني غرامي، يا حسن المعاني، زارني باهي المحيا، رشيف القد، آه من ظلم الغوالي، طال ليلي، على إيش يا منى قلبي، شادن باللحظ، قام يسعى، لي ليال طوال، ناعم الخدين، سبحان ربي كملك، كثير النفار، أهوى قمراً، ليالي الوصل عندي عيد، طاف بالأقداح، ريم فلا، أنا لا أسمع المليم، سيدي إفعل، يا ساقي الندمان، يا هلالاً لاح، يا مخجل الأقمار، لما بن حبي غضبان، جل من أنشأ جمالك، هل على الاستار، هبت رياح المحبة، بأبي باهي الجمال، قد حركت أيدي النسيم، قل لمعشوق، زالت الأتراح عنا، سبحان ربي كملك، يا غزالاً ماس عجباً، يا هليلاً أطلعه، غضي جفونك يا عيوني عن زهور النرجس، إن يكن ساقي المدام، أشرق البدر، هي مليح ينجلي، حسن المعاني، يا عيني ردي جفوني و كحل السحر عيونا و أعاده العديد من المطربين و المطربات العرب ومنهم الفنانة اللبنانية الراحلة لور دكاش وبأداء جميل و رقيق .
ليه بتعيب الناس على بُقِّي ..
من حُسن صفاته الإرادة و الإعتداد بالنفس ما جعله يتخطى كل الصعاب طيلة فترة حياته ولحين وفاته عام 1957 ،ولعل أهم الصعاب التي واجهها طبيعة ملامحه الحادة التي ظلت على خصام دائم مع مواصفات الوسامة المطلوبة للفنان آنذاك، نظراً لبروز أنفه و انتفاخ الشفتين و سعة و كبر فمه، وتناسى الكثيرون أن داخل هذ الفم لسان ردد أجمل الألحان، وشدا بجميل الإبتهالات و الموشحات، وما عاناه الحريري عاشه الفنان اسماعيل ياسين فيما بعد والذي عاب الناس على كِبَرْ فمه أو ( بُقُّه ) كمال يقال باللهجة المصرية، ولم يكن أمام (اسماعيل) سوى تقديم مونولوج أشبه بمرافعة الدفاع عن نفسه وعن الحريري ويقول مطلعه: “ليه بتعايب الناس على بُقَّي .. وليه بتقول أم عليه بُقْ“ ومن باب المقارنة بين(بق و بق)، تابع (سمعه) رده على هذه النوعية من الناس :
ياما بُق جميل ولسانه طويل عايز المقراض
ياما بُق في ناس خياط خنَّاس نبَّاح محضاض
وبُقِّي ده المسكين قول لي: محض لمين؟
ولّا سب مين: هق هق
بس اسكت معلش يا بُقْ.