عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    21-Aug-2025

حكايات الغربة والاغتراب*د. ماجد الخواجا

 الدستور

قيل في الغربة الكثير مما يوجع القلب حيث الإكتظاظ بالحرمان وبالحنين، لكن الإغتراب ليس بالضرورة يرتبط بالمكان، إنما هو حالة يعيشها الإنسان الذي قد يكون داخل بيته وأسرته وزملائه.
 
ثمة تداخل في المعنى بين الغربة والاغتراب كونهما من جذر واحد يتمثّل في « غرب» التي تشير إلى نوع من الإنفصال والإبتعاد عن المكان والعلاقات والزمان والأشياء وحتى الذكريات.
 
الإغتراب هو الشعور بالوحدة والعزلة وأنت في وسط الناس، وما أقسى الوحدة في المدن المزدحمة. هناك حالات من الإغتراب القسري الناجم عن سياقات المجتمع أو الفرد، وتتجلى في الهجرات الشرعية وغير الشرعية التي يضطر الإنسان إلى مغادرة وطنه ومنزله وأصدقائه إلى بلاد الإغتراب والمهجر بحثاً عن أمن أو عن مصدر رزق أو صوناً لعرض أو دين أو فكر.
 
هناك من يعيش في وطنه كمهاجر ينتظر لحظة الخروج، كأنه ميّت فقد روحه ولم يبق لديه غير حلم باهت للرحيل الأخير.
 
من أقسى ما قيل عن الغربة للروسي إيفان بونين عندما دعاه أحدهم للعودة إلى روسيا : « أرجو أن تفهمني، من الصعب عليّ أن أعود إلى وطني شيخاً هرماً، فكل أصدقائي وكلّ أهلي يرقدون الآن في قبورهم، سأسير هناك وكأنني أعبر مقبرة».  
 
يقول تميم البرغوثي: « في الغربة سناجب كثيرة، وأشجار بندق، وشوارع واسعة، لكن أهم ما فيها هو قلة الأنصار والعزوة والحيلة»، في الغربة مهما امتلكت فأنت معوز لا تستطيع إدعاء الحق حتى في الحلم، الغربة هكذا تضمغنا، وعندما نصبح غير صالحين لشيء، تقذفنا إلى أوطاننا.
 
يقول مظفر النواب: جئتك من كل منافي العمر، أنام على نفسي من تعبي، متعب مني ولا أقوى على حملي.
 
أما نزار قباني فيقول: كل المنافي لا تبدد وحشتي، ما دام منفاي الكبير بداخلي.
 
الإغتراب هو حالة من الاستلاب والانسلاخ عن العالم، وهو الإنقطاع والانفصال عن شخص أو مجموعة أشخاص أو عن المجتمع او العالم بأسره، ليصبح المصاب بالإغتراب يتملكه شعور أنه ليس جزءاً من جماعة. هناك اغتراب نفسي واجتماعي ووظيفي وديني وجنسي، فيه يفقد المرء المعنى واللون والقيمة والذائقة والمزاج، هو الشعور بغربة الذات وانعدام المعنى والعزلة الاجتماعية وانعدام المعايير.
 
يعامل المصاب بالإغتراب معاملة المريض النفسي الذي يحتاج إلى العلاج، حيث تترافق حالة الإغتراب مع عديد من الأعراض النفسية المصاحبة ومنها الشعور بالإحباط ودرجات الإكتئاب وعدم المسؤولية.
 
الإغتراب شعور بعدم الشعور تجاه الحياة عموماً ومواقفها ومبادئها وظروفها، إنه إنكسار الروح وغياب الرغبة وموت الشغف. كذلك الغربة التي تحفر عميقاً لتعيد تشكيل شخصية الإنسان وتصبغها بألوانها التي مهما بدت زاهيةً، إلا أنها غارقةً في حفر الألم والوجع البائن على تجاعيد النفس المنهكة وإن عاشت الترف بانواعه.
 
في زمن أصبح بإمكان أيا كان ومن أيّ مكان وفي أيّ زمان أن يتواصل ويتفاعل مع أيّ إنسان دون إعتبار لمنبته وجنسه ولونه وطائفته وعشيرته ومكان إقامته، فقد توحشّ الشعور بالإغتراب وأصبح ملاحظاً للجميع ومن الجميع، ولو دققنا النظر في السائرين الحائرين الذين تكتظ بهم شوارع المدينة، نلمس في حركتهم ونظراتهم وأساليب حواراتهم، أنهم يعيشون الإغتراب الكامل.
 
كتب باليونانية على حجر في أمكيس « أم قيس» : أيها المارّ من هنا، كما أنت الآن كنت أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت، فتمتع بالحياة لأنك فانٍ. وأختم بقول محمود درويش في الغربة بأنها أن تسافر بعينيك بين الوجوه الحاضرة، فلا يبصر قلبك سوى ذلك الوجه الغائب.