الغد-عزيزة علي
جاءت محاضرة "ملاحظات في اليوم العالمي للغة العربية"، التي ألقاها أستاذ الأدب والنقد في جامعة فيلادلفيا، الدكتور غسان عبد الخالق، وأدارها الشاعر شفيق العطاونة، احتفاءً باليوم العالمي للغة العربية، بوصفها مناسبة للتأمل النقدي في واقع اللغة العربية، واستشراف سبل تمكينها وتعزيز حضورها في الحياة العامة والمعاصرة.
وفي ظل التحوّلات المتسارعة التي يشهدها العالم، هدفت المحاضرة، التي أقامها منتدى البيت العربي الثقافي، إلى إبراز الحاجة إلى إعادة النظر في موقع اللغة العربية، لا باعتبارها مجرّد أداة للتعبير، بل بوصفها ركيزة أساسية للإنتاج المعرفي، ووسيطا فاعلا في الإبداع العلمي والثقافي.
وتُعدّ اللغة العربية واحدةً من أبرز اللغات الحيّة في العالم، بما تختزنه من إرث حضاري ومعرفي أسهم، عبر قرون طويلة، في تشكيل الوعي الإنساني، وبما تؤديه اليوم من دور محوري في مجالات الثقافة والفكر والتواصل على المستويين الإقليمي والعالمي.
تُمثل اللغة، بحسب المحاضر، أحد الأعمدة الرئيسة للهوية الحضارية العربية، ووعاء معرفيا أسهم تاريخيا في إنتاج العلوم والفلسفة والآداب، وفي بناء جسور التفاعل الثقافي بين الأمم. وإذ تحظى العربية اليوم بمكانة دولية بوصفها إحدى اللغات الرسمية المعتمدة في منظمة الأمم المتحدة، فإن هذه المكانة لا تُغني عن مساءلة واقعها المعاصر، ولا عن البحث في سبل تفعيل حضورها في مجالات المعرفة الحديثة، والبحث العلمي، والخطاب الثقافي العالمي.
وقال د. غسان عبد الخالق: منذ أن اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها باعتماد اللغة العربية لغة رسمية سادسة، أخذت الاحتفالات السنوية تتزايد، وتتقارب في مضامينها، وتتشابه في أشكالها، شعرًا ونثرًا. غير أنّ السؤال الذي يراودني في كل عام هو: هل بلغ بنا الأمر إلى هذا الحد من الحاجة إلى تأكيد قناعتنا بأن لغتنا العربية لغة جميلة وتستحق أن نفخر بها؟
وأضاف: ألا نلاحظ أن هذه الاحتفالات موجّهة في المقام الأول إلينا نحن، وكأننا نشكّ في سلامة لغتنا أو مكانتها، وليست موجّهة إلى شركائنا في هذا الكوكب؟ ألا نلاحظ أيضًا أن ما يحول دون ترسيخ اللغة العربية في حياتنا العامة من عقبات، وما يمكن اتخاذه من إجراءات لتمكينها، إنما يقع على عاتقنا نحن، لا على الآخرين؟
هذه التساؤلات جديرة بأن تنقل أنظارنا وأفكارنا وأفعالنا من حيّز التفكير في "الدفاع عن اللغة العربية"، إلى حيّز "الإبداع فيها"، أو بعبارة أدق: من حيّز مخاطبة أنفسنا إلى حيّز مخاطبة الآخرين، وذلك من خلال التأمّل في الملاحظات الآتية:
أولًا: تفعيل الاكتشاف والابتكار والاختراع؛ إذ يثبت التاريخ أن اللغة-أي لغة-تنتشر وتزدهر بقدر إسهام الناطقين بها في مجالات الاكتشاف العلمي، والابتكار المعرفي، والاختراع الصناعي.
ثانيا: تجاوز القصور في تفعيل الاستثمار في تعليم العربية لغير الناطقين بها؛ فعلى الرغم من وجود مراكز متخصصة لتعليم العربية لغير الناطقين بها في بعض الجامعات العربية، فإن هذا التعليم ما يزال يفتقر إلى التخطيط المنهجي المطلوب لتعميق الاستثمار في الاقتصاد اللغوي، والانتقال به من مرحلة التعليم اللغوي المجرد إلى مرحلة التأثير الثقافي الواسع، على غرار ما تشهده مراكز تعليم اللغات العالمية مثل الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية والصينية.
ثالثًا: تجاوز القصور في إدراك دور الترجمة النوعية من العربية إلى اللغات الأجنبية؛ فعلى الرغم من وجود هيئات قومية ووطنية تُعنى بالترجمة، إلى جانب جهود فردية مشكورة، فإن ثمة قصورًا واضحًا في اختيار الرموز الثقافية العربية الجامعة، والعمل المنهجي على ترجمتها والترويج لها.
رابعًا: تجاوز القصور في المبادرة إلى إعداد معاجم تاريخية سياسية معاصرة؛ فبصرف النظر عن مواقفنا الفكرية إزاء مفاهيم مثل "الربيع العربي"، أو "الحرب على غزة"، فإننا مطالبون-قوميًّا ومعرفيًّا وأخلاقيًّا-برصد وتوثيق وتحليل مئات المصطلحات التي استُحدثت، وما تزال تُستحدث، في مجالات الإعلام والسياسة والأدب.
خامسًا: تجاوز القصور في إدراك الآثار السلبية للذكاء الاصطناعي على اللغة العربية؛ فمع ما يقدّمه الذكاء الاصطناعي من فوائد وظيفية وعملية ملموسة في ميادين العلوم والتكنولوجيا، إلا أن محتوى اللغة العربية وآدابها، ولا سيما في الفضاءات الرقمية العالمية، يظل مهددا بالتزييف والإيهام والتمويه، بدءا من رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه، وصولًا إلى إصدارات دور النشر العربية والمترجمة.