عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Jul-2025

الرزاز بين سردية الوعي والواقع*ا. د. هاني الضمور

 الغد

في مساء الخامس من تموز 2025، استضاف منتدى الحموري الثقافي ندوة للدكتور عمر الرزاز، رئيس الوزراء الأسبق، تحت عنوان “ما بعد السابع من أكتوبر – تساؤلات وإشارات”. وكما هو متوقع من شخصية فكرية وسياسية بحجم الرزاز، حمل خطابه طابعًا فكريًا تأمليًا، وحاول التقاط التحولات الإقليمية والعالمية، رابطًا إياها بحالة الوعي الجمعي في العالم العربي، والأردن على وجه الخصوص. 
 
 
لكن، على الرغم من اتساع الأفق النظري للندوة، لم تكن خالية من الثغرات، إذ برزت فيها مفارقة لافتة بين غزارة التحليل وغياب الخطة، وبين سردية الوعي واحتياجات الواقع الأردني المأزوم.
 
من الناحية الفكرية، قدّم الرزاز قراءة عميقة لمآلات الصراع العربي الإسرائيلي في ضوء أحداث السابع من أكتوبر، معتبرًا ما يجري تحولًا في “السردية”، وفرصة لإعادة إنتاج الوعي العربي تجاه قضاياه المركزية. شدّد على أن الحرب لم تعد تدار بالسلاح فقط، بل بالصورة، والرواية، والوعي التاريخي. لكن هذه المقاربة، رغم أهميتها، بدت وكأنها تقفز فوق الواقع المحلي، وتفترض أن لدى الدولة الأردنية من الأدوات ما يمكنها من خوض “معركة الوعي” كما يجب، في حين أن تلك الأدوات — من مناهج تعليمية، ومراكز بحث، ومؤسسات ثقافية — لا تزال تعاني من اختلالات بنيوية لم يتناولها الرزاز بعمق أو صراحة.
تجلّى الإشكال الثاني في بُعد الخطاب عن القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تثقل كاهل المواطن الأردني اليوم. فبينما كان الرزاز يربط المتغيّرات الجيوسياسية بتبدّل الأقطاب العالمية وصعود الصين وتراجع الهيمنة الأميركية، كانت الأسئلة التي تدور في ذهن الشباب الأردني تتمحور حول البطالة، وتآكل الفرص، وإشكاليات توسيع المشاركة السياسية. لم يكن حضور هذه القضايا منعدمًا تمامًا، لكنه لم يكن متوازنًا مع حجمها الحقيقي في الواقع الأردني. بدا الخطاب وكأنه موجّه إلى نخبة فكرية مأخوذة بالتحليل الجيوسياسي، أكثر منه استجابة لجمهور يطلب حلولًا يومية لا سرديات كبرى.
أما مقاربته للهوية الوطنية، فقد اتسمت بالقوة الخطابية لكنها افتقرت إلى المرونة الاجتماعية والسياسية. إذ دعا الرزاز إلى تعزيز الهوية الوطنية الجامعة كوسيلة لمواجهة محاولات التصفية السياسية أو التشويه الخارجي، وهو طرح لا خلاف عليه من حيث المبدأ. لكن الهوية، كما يعرف علماء الاجتماع السياسي، ليست معطى جاهزًا يُلقّن، بل مشروع سياسي وثقافي طويل يتطلب دمجًا حقيقيًا للفئات المجتمعية المختلفة، وتوزيعًا عادلًا للفرص، وإصلاحًا للمنظومة السياسية والتعليمية. ولم يوضح الرزاز في هذا السياق كيف يمكن تحقيق ذلك الدمج في ظل الفجوات القائمة، ولا ما إذا كانت الهوية الوطنية التي يدعو إليها ستستوعب التعدد والتنوع، أم ستكون نسخة منقحة من هوية أحادية الصوت.
كذلك، أثارت تحذيراته من انزلاق الأردن إلى “نسخة معدلة من اتفاقيات إبراهيم” انتباه الحضور، لكنها جاءت بصيغة تحذيرية مقلقة أكثر منها تحليلية أو اقتراحية. لم يقدم الرزاز تصورًا عمليًا لمواجهة هذا السيناريو، ولا آليات سياسية يمكن للأردن تبنيها لحماية موقفه التاريخي من القضية الفلسطينية ضمن المتغيّرات الجارية. هذا الطرح، رغم صدقه، ظل أقرب إلى التذكير بالمخاطر دون امتلاك أدوات ردعها.
الندوة، بما احتوته من أفكار، كانت فرصة لإعادة النقاش حول قضايا كبرى مثل الهوية، والتعليم، والسيادة، لكنها في الوقت ذاته كشفت حدود الخطاب السياسي القائم على التنظير في غياب أفق عملي. بدا الرزاز مفكرًا حائرًا بين الماضي والحاضر، بين الحلم والتطبيق، بين ما يجب أن يكون وما هو كائن. الخطاب كان عميقًا في مضمونه، لكنه معلق في الهواء، لا تلامسه يد الواقع، ولا يمشي على أرض السياسة اليومية الصلبة.
في زمن تتفاقم فيه الأزمات ويتراجع فيه الأمل، لا تكفي السرديات ولا تكفي الشعارات. المطلوب هو مشروع واضح، بأدوات واقعية، وخطاب يُخاطب الناس بلغتهم، لا بلغة النخبة. الدكتور الرزاز، بما يملكه من خلفية فكرية وحكومية، قادر على تقديم هذا المشروع إن أراد، لكن عليه أولًا أن ينزل من برجه التحليلي إلى أرض الواقع الأردني المتشظي. فالمعركة، كما قال، هي معركة وعي— نعم — لكنها لن تُحسم بالكلمات وحدها.