لماذا يرتفع الإنفاق العسكري أسرع من نمو الاقتصاد العالمي؟*د. شهاب المكاحله
الراي
تتجه ميزانيات الدفاع حول العالم إلى مستويات غير مسبوقة. فقد بلغ الإنفاق العسكري العالمي قرابة 2.7 تريليون دولار، أي ما يقارب 2.5% من الناتج العالمي الإجمالي، مع توقعات بمزيد من الارتفاع. وتتصدر الولايات المتحدة الأمريكية القائمة بإنفاق يعادل 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) أي ما يقارب 7,200دولار لكل مواطن. أما روسيا، فرغم إرهاقها الاقتصادي، خصصت أكثر من 7% من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع—أي ما يعادل 1,000دولار للفرد. أما إسرائيل فترصد نحو 9 بالمائة من ناتجها، أي 4,600 دولار للمواطن. الصين من جهتها تنفق نسبة متواضعة نسبيا تقارب2% من الناتج المحلي الإجمالي —حوالي 250 دولاراًللفرد—لكن حجمها الصناعي وطموحاتها العالمية يمنحان أرقامها وزنا مضاعفا.
غير أن المسألة ليست مجرد حساب ميزانيات أو أعداد دبابات. فميزان القوة العالمي يُعاد تشكيله حول صناعة المعادن المتقدمة، مثل الألمنيوم عالي القوة والفولاذ الجوي، وحول تقنيات النانو والسبائك المتطورة، والأهم من ذلك هو سلاسل صناعة أشباه الموصلات التي تشغّل الذكاء الاصطناعي في الأنظمة العسكرية ذاتية التشغيل ومنصات القيادة والسيطرة المشفرة. هذه ليست تطورات مدنية؛ بل هي عناصر حاسمة للهيمنة الاستراتيجية. فمن يسيطر على هذه التقنيات يحدد إيقاع الحروب المقبلة.
وهذا ما يفسّر توجه الدول الكبرى لإعادة توطين صناعات المعادن المتقدمة، وتأمين مصادر المعادن النادرة، ودعم مصانع الشرائح الإلكترونية. بتعبير آخر: السياسة الاقتصادية تتحول إلى سياسة أمن قومي.
لأن أرقام الإنفاق تُبرز هذا التحول، فقد رفعت أوروبا إنفاقها الدفاعي بنسبة 17% خلال عام واحد، والشرق الأوسط 15% في وقت يشهد الاقتصاد العالمي تباطؤاً وركوداً استثمارياً. هنا يبدو أن بعض الحكومات تتعامل مع زيادة الانفاق العسكري كوسيلة للخروج من الركود، وليس فقط كوسيلة ردع.
ومن هنا يظهر السؤال المزعج: هل أصبح التسلح بديلاً للنمو الاقتصادي؟ هل تتحول المنافسة على المواد الخام والتقنيات المتقدمة إلى أداة لتعويض ضعف الإنتاجية بدلاً من مجرد سباق ردع؟.
ولا يقتصر الأمر على القوى الكبرى التقليدية. فالناتو أعلن هدفا جديدا يقضي بوصول الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي لدى الدول الأعضاء بحلول 2035. المنطق بسيط: الردع الجزئي لا يردع أحدا. لكن الإنفاق وحده لا يكفي. فقد أظهرت الحرب في أوكرانيا أن القدرة على الإمداد والتجديد والصمود الصناعي أكثر أهمية من امتلاك معدات باهظة الثمن.
فالحروب اليوم لا تُحسم بمن يمتلك الأكثر، بل بمن يصمد أطول. روسيا خسرت آلاف المدرعات القياسية، ومع ذلك استمرت في القتال بدعم صناعي داخلي. أوكرانيا، رغم الدعم الغربي، تواجه تحديات في التعويض المستمر.
العالم لا يسعى إلى الحرب، لكنه يتجهز لها بجدية. فميزانيات الدفاع لن تنخفض، والصناعات الدفاعية أصبحت حجر الزاوية في السياسات الاقتصادية، وسلاسل الإمداد الحربية تُبنى لتدوم. وهنا الدرس واضح لصنّاع القرار: أولاً، دعم القاعدة الصناعية الدفاعية وليس فقط الميزانيات.
ثانياً، التركيز على الصيانة والجاهزية وليس شراء الأسلحة فقط.
ثالثاً، تعزيز تكامل التحالفات وتقاسم الأعباء.
وهنا تتحدث الأرقام بوضوح: إنفاق عسكري يصل الى 2.7 تريليون دولار إنفاق عسكري، ارتفاع حاد في الإنفاق للفرد، وسباق عالمي للسيطرة على الحديد والرقائق والنانو. نحن أمام عالم لا يهدأ، يتسلح خوفا من حرب يأمل ألا يخوضها.
السؤال ليس ما إذا كانت الدول ستخسر حربا كهذه، بل ما إذا كان العالم قادراً على تحمّل ثمنها أصلاً!.