نصيحة أمي.. السياسية!*رشاد ابو داود
الدستور
كان قد مضى حوالي عشر سنين على عملي في الصحافة وتحديدًا جريدة «الأنباء» الكويتية، من مترجم للمقالات السياسية المهمة في الغارديان والفايننشال تايمز والاندبندنت ونيوزويك وغيرها، ثم محررًا في قسم الأخبار، ثم رئيسًا للقسم وكاتب عمود يومي، عندما قالت لي أمي أثناء إجازة صيفية بعدما اطمأنت على أحوالي وعائلتي: «الله يرضى عليك يُمّا بس ما تحكي في السياسة».
لم أستطع أن أكتم ضحكة عفوية وقلت لها: «يُما بس أنا شغلي في السياسة». ردّت: «ولو.. بس ما تحكي بالسياسة».
لم تكن أمي ضليعة في السياسة ولا حتى تعلم في الحياة سوى تربية الأولاد والطبخ والصلاة. لكنها تسمع ما يقوله أبي والجيران. وقت نصحتني كانت لم تزل متأثرة بمرحلة الخمسينيات التي مرّ عليها ثلاثون سنة. تلك المرحلة التي كانت علاقاتنا مع مصر في مرحلة جزر تلاها مدّ وهكذا. كان سماع صوت العرب ممنوعًا. وخطابات عبد الناصر ممنوعة. والحديث في السياسة بين أكثر من اثنين ممنوع.
فكيف لك أن توضّح وضعك للفلاحة الطيبة البريئة ذات الثوب المطرّز بأغصان البرتقال والزيتون التي تنتظر العودة إلى يافا. وأن عملك كصحفي يحتم عليك أن تتعامل بالأخبار السياسية في العالم من دون أن تكون سياسيًا وغير منتمٍ لأي حزب أو فصيل أو تيار.
بل يتطلب عملك أن تكون شبه محايد، أقول «شبه» وأعنيها. فالصحافة أن تنقل الخبر كما هو وأن تعتمد على مصدرين على الأقل. ولك أن تتدخل في كلمة أو اثنتين تعبّران عن المعنى حين يكون القائل ضد بلدك أو ضد سياسة الجريدة التي تعمل بها. أمّا رأيك فبإمكانك أن تعبّر عنه في مقال يحمل توقيعك إن كان مسموحًا ومتسقًا أيضًا مع سياسة الجريدة.
أتذكر عندما كنت مساعدًا لمدير التحرير (1993 – 1998) في صحيفة «الخليج» التي تصدر في الشارقة، وأعدّ مانشيت وأخبار الصفحة الأولى، أنني وضعت المانشيت الرئيسي التالي: «الكنيست الأميركي يقر نقل السفارة إلى القدس». كان الخبر في تشريع بتاريخ 23 تشرين أول / أكتوبر 1995 يقضي بموافقة الكونغرس على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس والاعتراف بالمدينة عاصمة لإسرائيل وذلك خلال خمس سنوات. استخدامي لكلمة «الكنيست» بدلًا من «الكونغرس» عبّر عن موقف بكلمة واحدة.
ومنذ ذلك الوقت كان كل رئيس أميركي يوقع على تنازل بتنفيذ قرار الكونغرس لمدة ستة أشهر، ما أدّى إلى تأخير التنفيذ إلى أن جاء الرئيس البرتقالي لينفّذ القرار في 14 أيار / مايو 2018.
وزيادة في الدلال، الاعتراف بضمّ الجولان السوري إلى الكيان. وعندما سُئل عن سبب إقدامه على هذه الخطوة دونًا عن كافة الرؤساء الذين سبقوه قال ببساطة: «لأنهم كانوا جبناء».
يرحمك الله يا أمي، أنك رحلتِ قبل أن تشاهدي ما نراه ونعيشه اليوم. إسرائيل تهاجم سبع دول عربية وتهدد خمسًا أخرى، ونحن لا نسمع ولا نرى، فقط نتألم لما يجري ولِما سيأتي.
أمّا غزة المذبوحة المجوَّعة المخذولة فلها الله والصامدون والمقاومون.