"نطفة في قلب غسان كنفاني".. سردية تتقاطع فيها الحكاية مع الوطن
الروائية زينب السعود توقع روايتها في رابطة الكتاب الأردنيين
الغد-عزيزة علي
نظمت لجنة الرواية والقصة في رابطة الكتاب الأردنيين، أول من أمس، حفل توقيع لرواية "نطفة في قلب غسان كنفاني"، للروائية الأردنية زينب السعود.
شارك في الحفل الذي أدارَه القاص طارق عودة، الروائي مجدي دعيبس والناقدة وداد أبو شنب.
رأى المتحدثون، أن الرواية الصادرة عن دار الأهلية للنشر والتوزيع، تكشف عن مسارات متشابكة بين الخاص والعام، وتبرز قوتها في رسم ملامح المكان الفلسطيني.
قال الروائي مجدي دعيبس "إن عنوان الرواية "نطفة في قلب غسان كنفاني" يشد القارئ لتقليب صفحاتها بحثا عن معناه. "النطفة" رمز للحياة وربما الخصوبة. جاءت ندى من نطفة مهربة من سجون الاحتلال، فعل يحمل معاني التحدي والمقاومة والإصرار على الوجود والتمسك بالأرض".
"أوراق ندى، التي كتبتها في "سجن عوفر" وهربتها عبر مجندة من ليتوانيا، كانت النطفة التي زرعتها في قلب زوجها غسان، لتستمر الفكرة وتنتقل من جيل إلى جيل: فكرة المقاومة والوجود، والتحدي، ورفض الإذعان".
ثم تحدث دعيبس عن البناء والحبكة وتقنيات السرد في الرواية، مشيرا إلى أن الرواية تتألف من فصلين وساردين: ندى بثلاثة عشر عنوانا، وزوجها غسان كنفاني (اسم مركب لا علاقة له بالروائي المعروف) بعنوانين فقط، يشكلان عشر النص. تتقاسم الراوية والروائية ــ وهما سيدتان ــ الصوت السردي، فيتماهى صوتهما في الأمومة والتضحية والمشاعر الجياشة، ومواطن الضعف والقوة.
اما الحبكة، فهي تقوم على فكرة التقابل: المحتل وغير المحتل، المقاوم والمذعن، الثابت على الأرض والهارب، المؤمن بالمعجزات والمشكك بها. ندى، ابنة مخيم جنين، تقترن بغسان ويعملان معا في "الأونروا" بين الباذان ورام الله وغزة. يختلفان في الحب والحياة ومعنى الوطن والمقاومة، لكن الحب يختصر المسافة بينهما مؤقتا، قبل أن تكشف الأحداث ـ خاصة بعد وفاة ابنتهما جنين (ريتا) المصابة بالشلل الدماغي مواقفهما الحقيقية، حتى في اختيار اسم الطفلة الذي كان موضع خلاف منذ البداية.
رأى دعيبس أن الروائية تلاعبت بخط الزمن بذكاء عبر الاسترجاع والاستباق، كاشفة الأحداث تدريجيا للحفاظ على التشويق، واعتمدت على المونولوج وحديث النفس، لعرض ملامح شخصيتي ندى وغسان أمام القارئ. أما لغة الرواية، فهي كما أكد دعيبس لغة متينة ورقيقة، تخللتها مفردات عامية لتقريب السرد من القارئ، مع التزام الفصحى أساسا، خاصة في الحوارات، تجنبا لمزالق اختلاف اللهجات. وأضاف دعيبس إلى المكان والجغرافيا في الرواية، مبينا أن المكان جاء عنصرا داعما لصدقية الرواية، سواء في غزة وحي الرمال وشارع صلاح الدين، أو في الباذان وحي الياسمينة بنابلس. فالرواية بلا ملامح مكانية تفقد تماسكها أمام القارئ الذي يبحث عن تفاصيل المدينة والحي والمقاعد والساحات، ليشعر بها ويتماهى مع السرد.
ثم طرح دعيبس السؤال، هل هناك جزء ثان للرواية؟ فالرواية تنتهي بلسان غسان كنفاني: "عاهدت نفسي وكل من سيقرأ حكايتنا أنني لن أفلت يدها مرة أخرى مهما حصل حتى لو أصرّت على الانفصال، وحتى لو سرقوا جزءًا من جسدها، سأبقى أعيش على أمل أن المعجزات ما تزال تحدث".
في النهاية تترك الباب مواربا لاحتمالات عدة، لكن بالنسبة لي وربما لقراء كثر، الأمور واضحة. من الأفضل ترك مساحة للمتلقي ليبني خياره وفق شخصيته ومشاعره: الحالم يتوقع بقاء العلاقة، الواقعي يراها إلى طلاق محتوم، المتفائل يعتقد أن ندى خرجت من السجن لتربي هاشم على مبادئها، والمتشائم يشكك في قدرة القانون على مواجهة العنجهية الصهيونية. في النهاية، ما يبقى في الذاكرة هو الرواية كما نحب أن نراها ونشعر بها، لا كما كتبت حرفيا.
من جهتها، تحدثت الناقدة وداد أبو شنب عن "تقاطعات رؤيوية واستراتيجية السرد في (نطفة في قلب غسان كنفاني)"، مشيرة إلى أن الرواية تحمل أصداء لأعمال سابقة، مثل صوت محمود درويش، وتميم البرغوثي، وأصوات من الثقافة الشعبية. وتستحضر شخصية ندى رواية "في قلبي امرأة عبرية" لخولة حمدي.
ورأت أبو شنب أن عنوان الرواية يحيل إلى رواية "نطفة" لأدهم الشرقاوي. فهذه الأصداء نابعة من كون العمل إنسانيا في جوهره ومن أدب المقاومة، حيث تجسدت في نصوص موازية كالمقطوعات الشعرية والأغاني الشعبية، مثل "من جبل النار طلع الثوار..." (ص58)، أو في أحداث ومواقف متفرقة. وأكدت أن الروائية أتقنت لعبتي السرد والتأريخ، وصاغت وصفًا يخلق سردية قريبة من روح القارئ، لكنها لا تشبه أي عمل سبقها.
كما تحدثت أبو شنب عن العتبة الأولى في هذه السردية هي العنوان، الجدلي على غرار عناوين السعود، إذ يأتي كبطاقة إبهار مثقلة بالتساؤلات، معظمها يدور حول الروائي الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، خاصة مع استعارة مقولة له في بداية الرواية لترسيخ حضوره في النص. لكن ما إن يدخل القارئ إلى الأحداث حتى يكتشف أن غسان هنا ليس الكاتب المعروف، بل اسم مركب لشخصية مزدوجة الجنسية تمقت اسمها، ليكتشف في الفصل الثاني أن التسمية كانت فعلًا تيمّنًا بالروائي. ورأت أبو شنب أن الروائية اتبعت أساليب الحجاج لاستمالة المتلقي وإقناعه بواقعية الأحداث، أبرزها الاحتمالية، والتفاعل مع الواقع، واللغة البلاغية العالية. اعتمدت على وقائع حقيقية مثل حرب السابع من أكتوبر، والخيم، والانفجارات، والحواجز، وأسماء دالة مثل رامز أبو دقة، الذي يذكّر بأبطال من العائلة في غزة، وآخرهم المصور الشهيد سامر أبو دقة، إضافة إلى اسم غسان كنفاني، مما يثير التساؤل عن حضور الروائي في النص.
أما الاسم الأبرز في هذه الرواية، فهو "ندى"، المقتبس من الشاعرة الشهيدة هبة أبو ندى، التي استعارت الروائية من شعرها عبارة: "إنّ غزّة أخرى تُبنى في الجنة"، وجعلت بيتين من شعرها عتبة للفصل الثاني. هكذا توجه الكاتبة قارئها لتلقي الرواية كحقيقة مقنعة رغم سحر التخييل.
وأضافت أبو شنب أن أحداث الرواية تتحرك في أمكنة واضحة المعالم رسمتها السعود بدقة، مثل "الباذان ونابلس" (ص41)، وحي الياسمينة بعراقته ورائحته التي تكاد تصل إلى القارئ، وحي الرمال وشارعا صلاح الدين وعمر المختار في غزة. وصفت الكاتبة هذه الأمكنة بعناية، لكنها عند استحضار الوعي الحقيقي تستخدم مصطلح "الجغرافيا".
كما في قول ندى: "لا أريد الخروج من جغرافيتي" (ص114)، "لقد كانت الجغرافيا هي السبب دائمًا"، (ص188)، وفي قول غسان: "أحببت تدفقها في حب ما تسميه جغرافيا الوطن" (ص201)، و"على قدر ما كنت أكره ترديدها لكلمة الجغرافيا، أشعر الآن أنني متشبع بها تمامًا"(ص213)، يقول غسان: "تدور بي الجغرافيا والمعجزات التي تحدث" (ص220). وخلصت أبو شنب، إلى أن الرواية تسير في مسارات عدة لهدف واحد، حيث تطرح قضايا متعددة عبر قضية فردية (ندى أو ندى وغسان) داخل سردية شعب كامل، فتتداخل الأولى في رحم الثانية أو العكس حتى تبلغ غايتها. تحمل الرواية رمزية عالية تفتح باب التأويل على مصراعيه، وتترك بياضات نصية للقارئ الحصيف ليملأها وفق خلفيته الثقافية والبيئية والأيديولوجية والتاريخية، مما يجعل النص متجددًا وتزداد إنتاجيته مع كل قراءة.
في الختام، أوضحت الروائية زينب السعود أن بذرة الكتابة انطلقت عندها من مشهد عالق في ذاكرتها؛ قصة امرأة فلسطينية اضطرت، بعد ساعات من ولادتها في مستشفى نابلس، إلى عبور الحاجز الإسرائيلي سيرًا على الأقدام عائدة إلى قريتها الباذان، خشية إغلاقه مجددا ومنع عبور السيارات. ظل هذا المشهد مخبأ في الذاكرة حتى قررت الكتابة عن فلسطين، ليصبح أحد المشاهد الرئيسية في الرواية، مسلطا الضوء على طبيعة الشخصيات ومسار الأحداث.
وقالت السعود "إن الرواية تستدعي رمز غسان كنفاني المقاوم، الذي كرّس سنواته القليلة للدفاع عن فكرة الوطن والعودة والمقاومة. سعت الكاتبة إلى تفكيك الصورة النمطية للفلسطيني، بالتعمق في الشخصيات والاقتراب من هواجسها البشرية، حتى وإن فسّرها البعض خطأً لمخالفتها الصورة الكلاشيهية للفلسطيني، الذي يُفترض به دائمًا أن يتلقى التنظير أو الاتهام.
وأشارت الروائية إلى أن غسان كنفاني في الرواية شخصية مختلفة مليئة بالصراعات، يلتقي طريقه بندى التي أحبها رغم اختلافهما في مقاربة فكرة الصمود والبقاء. ومن خلال ندى، تضيء الرواية على غسان كنفاني الحقيقي، لتكشف المفارقة الروائية وتؤكد أن العبرة ليست بالاسم، بل بالأثر الذي يتركه.