عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Jun-2021

الناس يريدون حرية التعبير -لأنفسهم

 الغد-ترجمة: علاء الدين أبو زينة

 
جاكوب مشانجاما* – (فورين بوليسي) 8/6/2021
في استطلاع عالمي جديد، أيد المستجيبون بأغلبية ساحقة حرية التعبير -لأي شخص يتفقون معه. وأظهر الاستطلاع ارتباطاً إيجابياً واضحاً بين الدعم العام لحرية التعبير والتمتع الفعلي بهذا الحق. ووفقًا لذلك، كلما زاد عدد الأشخاص الذين يدعمون مبدأ حرية التعبير الصعب والمعارض للحدس، زادت احتمالية ممارستهم له بالفعل من دون رقابة أو قمع. وهذا يتطلب تطوير ثقافة قوية ومتسامحة لحرية التعبير. وللأسف، من غير المرجح أن يظهر إجماع عالمي على الحد الأقصى لحرية التعبير في أي وقت قريب.
* * *
من يهتم بحرية التعبير؟ الجميع تقريبًا، وفقًا لمسح عالمي جديد بتكليف من “جَستيشيا” Justitia (المؤسسة التي أديرها). وفي الحقيقة، في 33 دولة في مختلف أنحاء العالم، يعتقد 94 في المائة من السكان أنه من المهم أن يتمكن الناس من قول ما يريدون من دون رقابة. وبالمثل، فإن حقوق وسائل الإعلام في نشر تقاريرها وأخبارها على النحو الذي تراه مناسبًا وحقوق الأشخاص في استخدام الإنترنت من دون رقابة تتمتع بدعم بنسبة 93 في المائة و93 في المائة لكل منهما على التوالي أيضاً.
ولكن، إذا كانت الغالبية العظمى من المستجيبين من المؤيدين المتحمسين لحرية التعبير، فلماذا شهدت هذه الحرية تدهوراً عالميًا لأكثر من عقد من الزمان؟
للإجابة عن هذا التناقض الظاهري، نحتاج إلى أن نسأل -ليس فقط عما إذا كان الناس يدعمون حرية التعبير، وإنما بكم من الصدق يدعم الناس هذه الحرية. بمجرد إجبار الناس على قياس دعمهم بشكل مجرد لحرية التعبير مقابل المقايضات والقيم المتنافسة (المفترضة)، فإن الدعم شبه العالمي ينخفض بسرعة. ويبدو أن الكثير من الناس يقدّرون الحق في التحدث بحرية عن أنفسهم، ولكنهم يُسندون قيمة أقل لآراء الآخرين التي قد تتعارض مع قيمهم وأولوياتهم.
في جميع البلدان، يؤيد 43 في المائة فقط الحماية القانونية للتصريحات المسيئة للأقليات، بينما يؤيد 39 في المائة حظر التصريحات المسيئة لدينهم ومعتقداتهم. ويتفاوت التسامح مع التصريحات الداعمة للعلاقات الجنسية المثلية من الدعم شبه الكامل في الدنمارك والسويد (91 بالمائة)، إلى أقل من الثلث في باكستان (27 بالمائة). ويعرب 72 في المائة من الدنماركيين والأميركيين عن استعدادهم للتسامح مع الإهانات التي قد تتوجه إلى أعلامهم الوطنية، مقارنة بـ16 في المائة و18 في المائة فقط في تركيا وكينيا، على التوالي.
وفقًا لرئيس جامعة كولومبيا، لي بولينغر، فإن “التعديل الأول” للدستور الأميركي جعل الولايات المتحدة هي “الأكثر حماية لحرية التعبير من أي دولة على وجه الأرض، الآن أو عبر التاريخ”. ومما يثير القلق أن الدعم الأميركي لمثل هذه “الاستثنائية في حرية التعبير” ربما يكون في طور التضاؤل أيضاً. صحيح أن 88 في المائة من الأميركيين يعتقدون بأن حرية التعبير يجب أن تشمل الحق في انتقاد الحكومة، وهو “المبدأ الأساسي” نفسه للتعديل الأول. لكن هذه النسبة تعكس انخفاضًا طفيفًا -وإنما مهم- مقارنةً بالمسح الذي أجراه مركز “بيو” في العام 2015، والذي ربما يشير إلى تزايد القلق الأميركي بشأن حرية التعبير بعد الرئاسة المضطربة لدونالد ترامب وختامها العنيف الذي تمثل في الهجوم على مبنى الكابيتول. وهذا التفسير مدعوم بحقيقة أن ناخبي بايدن هم أقل دعمًا لحرية التعبير بشكل عام من ناخبي ترامب، وهي نتيجة مفاجئة إلى حد ما، بالنظر إلى هجمات ترامب المتكررة على وسائل الإعلام ووصفها بأنها “أعداء الشعب”.
قد يؤدي مستقبل حرية التعبير في الولايات المتحدة إلى مزيد من الابتعاد عن استثنائية حرية التعبير فيها. وقد أصبح الشباب (من الأعمار ما بين 18-34 عامًا) أقل دعمًا لحرية التعبير من الأجيال الأكبر سنًا -إلا عندما يتعلق الأمر بإهانة العلم الوطني للولايات المتحدة الأميركية. وهذا يشمل درجة تسامح أقل بكثير (تتقاسمها النساء وناخبو بايدن) مع التصريحات التي تسيء إلى الأقليات. ويشير هذا إلى أن العديد من الأميركيين الأصغر سنًا أصبحوا ينظرون إلى حرية التعبير والمساواة على أنهما قيمتان متضاربتان (في بعض الأحيان)، بدلاً من أن تكونا معزِّزتين لبعضها بعضا. ويشكل هذا خروجاً عن الفكرة القائلة إن “حق التعبير هو حق ثمين وعزيز للغاية، لا سيما للمضطهدين”، كما عبّر عنها ببلاغة فريدريك دوغلاس، المناصر لإلغاء الرق في القرن التاسع عشر.
لجزء كبير من تاريخ البشرية، تم تقييد الكلام المسموح به بشدة باسم المعتقد الديني. وفي أشد حالاته تفجرًا، قد يؤدي التعصب الديني إلى أعمال عنف مميتة كما شوهد في الهجمات الجهادية التي شُنت ضد رسامي الكاريكاتير في الدنمارك وفرنسا، والعنف الذي يمارسه المتطرفون الهندوس ضد المسلمين في الهند، والهجمات التي يشنها المسيحيون الأرثوذكس المتطرفون في روسيا على المثليين. وعندما سُئلوا عما إذا كان ينبغي أن تكون الحكومة قادرة على تقييد التصريحات المسيئة ضد “ديني أو معتقداتي”، قال 73 بالمائة نعم في تركيا، و75 بالمائة في باكستان، ولكن كذلك فعل أيضاً 37 بالمائة في المملكة المتحدة وفرنسا، و47 بالمائة في ألمانيا.
لكنّ هناك أيضًا نتائج متفائلة أظهرها الاستطلاع لأولئك الذين يقدّرون الحق في التحدث بحرية. وبما أن حرية التعبير موضوع حساس، يميل الناس إلى الإجابة عن الأسئلة بطريقة ينظر إليها الآخرون، مثل الحكومة والأقران، بشكل إيجابي. ولاستنباط مثل هذا “التحيز للرغبة الاجتماعية” وكشف التفضيلات الحقيقية، قمنا بتطبيق ما تسمى “تجربة القائمة”. وعندما قمنا بمقارنة الردود على تجربة القائمة التي أجريناها مع الردود على أسئلتنا المباشرة حول قبول العبارات المسيئة للدين، ظهر أن الكثير من الناس أكثر تسامحًا مع انتقاد دينهم في السر مما هم على استعداد للاعتراف به علنًا. وفي روسيا كان الفارق مذهلاً، +36. وقد عثرنا على اتجاه مماثل في عدد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة التي تعاقب على الإساءة الدينية: تركيا (+22)، لبنان (+17)، تونس (+14)، مصر (+12)، وإندونيسيا (+15).
لتقييم وترتيب حجم الدعم العام لحرية التعبير في الـ33 دولة التي شملها الاستطلاع، أنشأنا “مؤشر جَستيشيا لحرية التعبير” Justitia Free Speech. وقد ظهر بعض الأبطال غير المحتملين، بما في ذلك المجر وفنزويلا اللتان احتلتا المركزين الخامس والسابع على التوالي. وقد يكون المجريون والفنزويليون، المتأثرون باستيلاء الحكومة على وسائل الإعلام التقليدية وتهميش أصوات المعارضة، مدركين لمخاطر اعتبار حرية التعبير أمرًا مفروغًا منه. ويوفر هذا التطور الأمل في أن حرية التعبير يمكن أن تنجو من الموجة الحالية من الاستبداد. وبالمثل، على الرغم من إجراءات المراقبة الشرطية المشددة في المجال العام، هناك دعم شعبي كبير للحق في انتقاد الحكومة في البلدان منخفضة الترتيب على المؤشر، مثل مصر وتركيا وروسيا والفلبين.
في العصر الصناعي للإعلام التقليدي، كانت الدولة هي الحكَم النهائي على التعببير، الذي حددته وفرضت حدوده. ومع ذلك، في العصر الرقمي الذي تنتشر فيه وسائل التواصل الاجتماعي، تتخذ المنصات الخاصة قرارات يومية بشأن حدود التعبر أكثر مما تواجهه معظم الحكومات في أي وقت. وليست شركات “فيسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب” ملزمة بـ”التعديل الأول” أو القانون الدولي لحقوق الإنسان، ومع ذلك فإن لتعديل محتواها تداعيات هائلة على الانتشار العالمي للأفكار والمعلومات. وهذا يثير السؤال الصعب حول من هو الذي ينبغي أن يقرر ويفرض الحدود عندما يتعلق الأمر بحرية التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي. هل يجب أن تكون الدول؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يجب على كل دولة عزل ركنها من الإنترنت وإقامة جدار حوله بقوانينها الخاصة؟ أم أن الذي يجب أن يقرر هو المنصات الخاصة، التي تفتقر سياساتها إلى الشرعية الديمقراطية المباشرة والشفافية، وتعمل خارج قيود الحقوق الأساسية؟
يظهر هذا الصراع حاليًا بشكل واضح في الهند، حيث تمارس الحكومة ضغوطًا شديدة على “تويتر” لإزالة “المعلومات المضللة”، التي تتضمن الانتقادات الموجهة إلى الحكومة بسبب طريقة معالجتها لوباء “كوفيد – 19”. لكنّ هناك ديمقراطيات أوروبية، مثل ألمانيا والنمسا، والتي تبنت هي أيضًا قوانيناً تجبر شركات منصات التواصل الاجتماعي على إزالة “المحتوى غير القانوني”. كما يوضح المسح الذي أجريناه بوضوح أنه من المستحيل على المنصات المركزية الكبيرة أن تمتثل لحدود التسامح المتصادمة للناس في جميع أنحاء العالم. وسوف يصر البعض، حتماً، على أن المنصات تزيل القليل جدًا، بينما سيحتج البعض الآخر على أنها تزيل الكثير جداً.
تتفق الأغلبيات في جميع البلدان التي شملها الاستطلاع على أن بعض القواعد التنظيمية لوسائل التواصل الاجتماعي هي أفضل من لا شيء. لكنّ من المثير للاهتمام أن الأغلبية في ثلثي البلدان التي شملها الاستطلاع -بما في ذلك فنزويلا والمجر والولايات المتحدة ونيجيريا واليابان والسويد- تفضل أن تكون المنصات مسؤولة فقط عن تنظيم نفسها على عكس التنظيم الحكومي. وعلى الرغم من تضخيم خطاب الكراهية والمعلومات المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي، يبدو أن الكثيرين يقدرون قدرة هذه المنصات على نقل المعلومات وتسهيل الوصول إليها من دون رقابة حكومية.
ما الذي يمكن أن نفهمه من كل هذه البيانات؟ ثمة ارتباط إيجابي واضح بين الدعم العام لحرية التعبير والتمتع الفعلي بهذا الحق. ووفقًا لذلك، كلما زاد عدد الأشخاص الذين يدعمون مبدأ حرية التعبير الصعب والمعارض للحدس، زادت احتمالية ممارستهم له بالفعل من دون رقابة أو قمع. وهذا يتطلب تطوير ثقافة قوية ومتسامحة لحرية التعبير. وللأسف، من غير المرجح أن يظهر إجماع عالمي على الحد الأقصى لحرية التعبير في أي وقت قريب.
 
*Jacob Mchangama: هو المدير التنفيذي لجوستيشيا Justitia، وهي مؤسسة فكرية مقرها كوبنهاغن تركز على حقوق الإنسان وسيادة القانون، وهو مؤلف الكتاب المقبل “حرية التعبير: تأريخ من سقراط إلى وسائل التواصل الاجتماعي” Free Speech: A History From Socrates to Social Media.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: People Want Free Speech—for Themselves