Saturday 20th of April 2024
 

عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 

مواقع التواصل الاجتماعي

 
 
  • التاريخ
    10-Mar-2010

'بلد المحبوب' ليوسف القعيد: 'مرثية شجية لوطن مُسْتلب'

القدس العربي -

عن روايات الهلال، عدد شهر آب/أغسطس 2009 صدرت رواية 'بلد المحبوب'، ليوسف القعيد وقد صدرت من قبل عام 1987. وهي رواية عذبة ضمن مجمل أعمال القعيد التي امتدت منذ الستينيات وحتى الآن، وتبدو هذه الرواية مرثية عذبة لوطن مُستلّب، وقد تعددت أوجه استلابه من تغيرات سياسية واجتماعية، وعلو لهجات خطابية لم نكن نألفها من قبل، بالإضافة إلى هيمنة قوى غريبة صارت لها الوصاية على أفراد المجتمع وسلوكياته. فصار الفرد في مثل هذا الوطن أشبه بالغريب الذي يبحث عن دليل يقوده لما كان يعرفه من قبل. يعود الراوي بعد رحلة اغتراب عن الوطن- مثله مثل آلاف من المصريين الذين هاجروا بحثًا عن المال في بلاد البترودولار - طالت لأحد عشر عامًا إلا قليلاً، يعود وقد ترك وطنًا وحبيبة، ومعه وعدٌ من النيل بأن يفيضَ عند مَقدِمه، وما إنْ عاد فلا وجدَ وطنه كما تركه، ولا الحبيبة انتظرته، ولا فاض النيل. اكتشف منذ لحظة عودته من المطار أن كلَّ شيء تغيّر، فلا الملامح التي كانت محفورة لأهل بلده كما كانت ولا الحقول الخضراء التي كانت ترتع على جانبي النيل كما هي، بل سرقتها المباني، ولا ماء النيل مثلما عهده صافٍ، الكل أصابه التغيُّر، الشيء الوحيد الذي بقي على حاله هو مشاعر أمه الإنسانية، التي مازالت كما هي.

وفي لوحة فنية تجمع بين عذوبة السرد والتهكم الخفي يرصد الراوي منذ لحظة وصوله ما آل إليه الوطن، فقد استباحت المادة كل شيء، وطغى القبح على الماضي الآسر لديه، فالمواصلات تعج بالضجيج وسائقو التاكسيات في حالة تربص للقادم من الخارج، الكل يساوم على أي شيء، والمباني توحشت وضاقت - حتى أنه فشل في معرفة منزله - وأكلت فيما بينها المسافة الباقية من العلاقات الإنسانية، وأبرزها الحب، فحلّت الشرفات بديلاً عن البلكونة التي كان يتبادل فيها مع محبوبته كلام الحب والعشق، وأضحى الناس صفقات تسعى إلى الربح لا الحب، حيث استشرت القيم الاستهلاكية بين أفراد المجتمع. كما أن النيل الذي كان شاهدًا على وعود العشاق، صار غادرًا يبتلع الحبيبات، وبعد أن كان يفيض بمائه صار سجينًا عاجزًا حتى عن أن يغسل نفسه فلم يعد الشعراء يكتبون فيه الشعر ولا يغني له المغنون، بل والأدهى أنه لم يعد مانحًا للحياة كما قال له صديقه ' فالحياة تأتي لنا من العواصم الأخرى، من البلاد البعيدة، عبر المطارات والموانئ والجمارك '( ص 38).

هكذا تبدّل الحال إلى الأسوأ. حتى أن صديق الراوي الوحيد الذي بقي ورفض أن يهجر الوطن، وأعرض عن العمل الإضافي (وفضّل أن يعيش على الحافة)، قالها له صراحةً عندما سأل عن حبيبته: إنها تزوجت فكانت الصدمة الحادة والتي رفض أن يتخيّلها، إلا أن الصديق أخبره أن كليهما خان، فهو خان لما سافر وهي خانت لما أقدمت عليه (الزواج). ففعل الخيانة واقع بين المسافة بينه وبينها، والأفضل له أن ينصرف لحاله، لكنه رفض أن يصدق ما قاله، وراح يستحثه على معرفة عنوانها، فعرف أنها تزوجت من مهندس الري، وتسكن بين أنهار ثلاثة. وفي الصباح ذهب يبحث عنها، وعند فيللا مهندس الري، راح يبحث عنها ويُمنِّي نفسه بوعد النيل الذي جاءه عبر حُلم في بلاد الغربة بأنه سيفيض لهما، وفي مشهد سردي يجمع بين الحُلم والواقع يجدها، ويبادلها الحديث، فأخبرته أنها أنجبت ولدًا ذكرًا أسمته على اسمه، وبنتًا أسمتها على اسمها، ويأخذان قاربًا؛ ليكملا الحديث في النيل، وما أن أشتد عطشها حاولت أن تشرب من ماء النيل، لكن تسرّب الماء من بين يديها، فراحت تُجرِّب أن تنزل بفيها لتشرب مباشرةً فاختل توازنها فسقطت في النيل دون أن يذهب خلفها لينقذها؛ اعتقادًا منه أنها سوف تعود إليه، لكنها استقرت في باطن النهر، مكتفيًا بعجزه عن السباحة، ولما يئس من طفوها مرة ثانية، ذهب إلى قسم الشرطة ليبلّغ قبل أن يأتي زوجها، ويصبح متهمًا، وهناك في القسم نكتشف أن ما حدث مع الراوي ما هو إلا توهمات وخيالات من جراء ما سمع. فما حدث معه قد حدث بالضبط مع تبدل الراوي بالزوج. وماتت منذ زمن دون أن تنجب، إلا أنه رفض أن يصدق أو يمتثل، فغاب في توهماته وخيالاته حتى أنه يقرُّ في نهاية الرواية إقرارًا أشبه بالجزم 'لا بد من لقاء محبوبتي، ولا مفر من فيضان النيل. قلت لنفسي: لا بد، لا مفر'(ص: 146) لكن كانت النهاية فلا التقى بمحبوبته ولا النيل فاض، وإنما كان الإخفاق قرينه منذ أن عاد.

****

يقوم النص على المراوحة بين الحلم والواقع تارةً، والأسطورة تارة أخرى، والحب والتهكم تارة ثالثة، فالراوي يزاوج بين الواقعي والأسطوري في جدلية متقنة، حيث سيطرة السرد الواقعي على أغلب أجزاء الرواية ماعدا الأجزاء الأخيرة (رحلة البحث عن المحبوبة)، بل أن المزاوجة لا تقتصر على أجزاء بعينها، وإنما تتغلغل في نسيج السرد كله، وكأنما يقدم لوحة فنية منسوجة بإحكام، فصديق الراوي عندما يقدم له عنوان محبوبته السابقة يقول 'قال لي أن عنوان محبوبتي لا يكتب في أوراق، فهي تعيش مع زوجها وأولادها في مدينة تنام في حضن ثلاثة أنهار' (ص 42)، ويستفيض الراوي نفسه في تخيّل الأنهار الثلاثة 'تخيلت حال الوطن، نهر يجيء فيه ماء يحمل الطمي، ماء بني اللون، ونهر تجري فيه ماء الحياة، تشفي المريض وتعيد العمر من جديد وحمل منها حتى المرأة العاقر والنهر الثالث يجري فيه العسل الأبيض، نخرج إليه ونشرب منه. ...'(ص 43)، فوصف النهر يغلب عليه طابع الأسطورة، وبالمثل وصف المحبوبة الذي لا يوازي جمالها أيه إنسانة على وجه الأرض، فعندما يعيد الضابط الشاهد على الحادثة تفاصيلها على الراوي؛ ليقتنع بأنها غرقت، ففاضت دموعه عندما تحدث عن جمالها ورقتها وعذوبتها، كما 'أكدّ أن النهر اختارها عروسًا له في العام الذي غرقت فيه، بعد أن ضنت البلاد عليه بعروسه' وقد اختارها؛ 'لأنها أجمل إنسانة على وجه الأرض كلها' (138). كما أن شخصية مهندس الري نفسه، مغلفة بحس أسطوري /غرائبي، فالشخصية رغم وجودها كعنصر أساسي شاهد على مأساتين الحبيب (بزواجه من محبوبته)، والحبيبة (برؤيته لغرقها ولم يفعل شيئًا)، فكل التأكيدات والشواهد تدل على طابعه الغريب، فلا أحد يجزم بأن رآه مطلقًا خارجًا من منزله، كما أن الراوي عندما يذكر لأهل القرية أنه قريب للمهندس، تعجبوا وقالوا في إجماع إنه أول قريب له يظهر بشحمه ولحمه، ومن ثم على حد تعبيرهم 'هو مثل كل الناس، له أقارب ومن بلد ولديه أهل وعزوة' (ص 81)، حتى أن عاداته تختلف عن بقية الناس، فهو شخص من طراز نادر وفريد من البشر. كل هذه الأشياء أحاطت المهندس بشيء من القدسية والمهابة، لدرجة أن أهل البلد لم يذهبوا إلى موقع سكنه أبدًا. فصارت حياة المهندس لغزًا من الألغاز، لا يقربه أحد ولا يجرؤ أحد على الحديث معه فيه!

ومن تداخل الواقعي مع الأسطوري حكاية عروس النيل أيام الفراعنة التي كانت تلقى ليفيض النيل. ومع التعارض بين مضمون الأسطورة القديمة التي كانت فيها عروس النيل تُخْتار من بين أجمل النساء، وتُهْبُ للنيل في احتفال يشهده الفرعون، انتظارًا لفيض النيل وعطائه، وبين حالنا الآن الذي ـ زمن الرواية ـ تُغرق في النيل أجمل النساء، ويقف أبناء مصر مكتوفي الأيدي /عاجزين أن يمدوا لها يد العون، هنا تبدو الأسئلة مشروعة عن الحبيبة! منْ هي؟ وهل هي شخصية واقعية أم رمز؟ وعلى مَنْْ يعود الرمز؟ في كثير من الأحيان يكون رد الدال إلى مدلوله، عنصرًا هادمًا لقيمة النص وجماله، حيث الغموض مصدرٌ لثراء العمل. لكن هنا مع دلالة الرمز الواضحة تتطلب رد الدال إلى مدلوله، فالشخصيات في جملتها رمزية، وغير حقيقية. كما أن الرمز يعلن عن مسكوت عنه أشد قسوة مما قيل من قبل الراوي أو حتى ما قاله صديقه. فالمحبوبة التي جاء الراوي باحثا عنها وقيل عنها حكايات، منها أنها خانت الوعد ولم تنتظر، لم تكن حقيقة بل هي رمز لمصر، التي ضاعت، بل وأغرقناها نحن بتلك التبريرات الساذجة التى نقولها بين حين وآخر، فغبنا عنها (بما فينا الراوي المحتج) لنجمع المال، وما أن عدنا حتى وجدنا أنها ارتكنت في أحضان آخرين عنوة، هووا بها في وهدة سحيقة، ومن ثمّ، فلا عجب أن يعود الراوي فيفجع بمنظر الكباري المقزز للنفس، والعمارات العالية المتراصة دون ذوق أو جمال، والمحلات التي احتلت بوابات العمارات، وأنفاق وأرصفة، وناطحات سحاب تحجب النيل، بل أن النيل صار مصدر الماء الذي نشربه، ومكانًا تُصْب فيه فضلاتنا في تناقض عجيب ومريب يديننا جميعًا! ومن فرط ما حاق المجتمع من تغيير ينعكس هذا على واقعه الأصغر/ بيته فيقول، في شبه إدانة لما حدث! والمسؤول عما حدث! 'بيتنا لم يعد بيتنا، حتى الجدران والسقف النوافذ'. ومن ثم ّ تتوالى الصور المنفرّة التي طرأت على مجتمعه، الذي اُسْتلِّب من أفراد عديدين، فثمة استلاب من امتداد ظاهرة المد الديني، وإسباغ المجتمع بظاهرة التأسلم، من كثرة بناء مساجد، وأيضًا الكنائس، لم يكن الغرض منها التقرب إلى الله، بقدر الاستفادة من القوانين الوقتية التي خرجت تقول 'إن من يخصص الدور الأرضي ليكون مسجدًا، يحصل على أولوية في صرف مواد البناء المدعومة'(ص 73). ويا ليت الأمر اقتصر على هذا!، فها هو يرى أناسا من شباب صغار السن لحاهم طويلة 'يرتدون ملابس بيضاء من القدمين حتى الرأس، وفي أيديهم سبح من أشكال وأحجام مختلفة' وثمة شابات 'ترتدين ملابس تغطيهن جميعًا ما عدا العينين'(ص 61) والحجاب أنواع ومنهن منقبات. وثمة انفراط في الذوق وتدني الغناء واللحن، فأصاب المغنون الهواء بالتلوث من فرط أغنياتهم السوقية والمبتذلة (رغم أن صوت أحدهم يعبر عن المصري الأصيل) لكنها تجارة السوق التي راجت بفضل سياسات جوفاء. وثمة أناس متزمتون قيّموا أنفسهم حُراسًا على المجتمع وعلى سلوكيات أفراده يمسكون بالميكروفون، ينذرون الناس بالنار والعذاب في الآخرة، ويهاجمون 'من يشتري عرض الدنيا الزائل'.

وكنتيجة طبيعية لمثل هذا النسق من القيم الذي استشرى وجعل شعاره الاستهلاك، وحمى الإنفاق على أي شيء حتى ولو كان لا يلزمهم، ارتفعت الأسعار، وزادت الأزمات من سكن إلى مواصلات، إلى اختفاء سلع، وبيعها في السوق السوداء بأضعاف ثمنها الحقيقي. وظهرت طبقة جديدة من محدثي النعمة (تتلاءم مع الوضع الجديد الانفتاحي 'السداح مداح')، لا همّ لهم إلا جمع المال واكتنازه بأية وسيلة، فانعكس سلوكهم على أبنائهم الصغار فيقودون سيارات فارهة رغم أن القانون يمنع حدوث مثل هذا، لكنه المال فإذا جاء القرش لا يعرف صاحبه من أين جاء ولا كيف، يريد أن يتخلص منه بسرعة، فمثلها مثل البراغيث التي تقرص من يضعها في جيبه.

كل هذه الأشياء تشي بطرف خفي لغياب الدولة، ومن جراء هذا الغياب نمت وترعرعت داخل المجتمع جماعات تعمل وكأنها دولة داخل الدولة (راجع حال مواقف التاكسيات والقوانين العرفية التي وضعها السائقون ويسيرون عليها) أو وجود شكلي من خلال إقامة توازنات بين القوى المصطرعة (والمتكالبة على الحكم) لضمان استقرار الحكم، فأطلقت الدولة يد الجماعات الدينية والتي ربتهم وغذتهم ـ ولكن للأسف انقلبوا على شرعيتها وقتلوا رئيس جمهوريتها ـ ليقفوا في مواجهته الاشتراكيين والشيوعيين على حد تعبير أحد الزبائن في التاكسي.

بل أنه يمكننا القول أن رواية 'بلد المحبوب' تسعى لإعادة إنتاج/ توظيف أسطورة (عروس النيل) الفرعونية، بخيط شفيف يربط بين الإرث الفرعوني ومصائب مصر الحديثة، كما إنها أيضًا تستدعي (في الجانب المقابل) أسطورة إيزيس وأوزوريس (أسطورة البعث)، لتقول لنا إذا كان الماضي عامرًا بالخصب والنماء فإن الحاضر مليٌ بالعقم والجدب، ومن ثمّ فلا بعث يُرْتجى، ولكن مع إعادة إنتاج الأسطورة في سياق أيديولوجي مغاير(يهدف في المقام الأول إلى إدانة الجميع). فالعائد هو أزوريس، يسعى بعدما رأى ما رأى ورفض أن يقتنع، للبحث عن جسد إيزيس/مصر، ليمنحها قبلة الحياة؛ لتعود كما كانت على الأقل قبل أن يرحل، لكن يفجع في أنه صار فاقدًا للروح التي تُمْنح، كما أن المفقود الذي رحل وغاب في قاع النهر لن يعود، وبالمثل، فالزوج الذي جاء عليه الدور ليكون بديلاً عن إزوريس في الأسطورة القديمة، وينقذ إيزيس، تخلى عن دوره معتذرًا أنه لا يعرف السباحة، أما الراوي الذي أحلّ الدور عليه، فكأنه يريد أن يقول أن ما حدث، حدث لأنه لم يكن موجودًا، وما أن حدثت لعبة التبديلات والتوهمات في نهاية الراوية، وقف أيضًا عاجزًا عن أن يمد يد العون، وها هما الزوج (الحارس المفترض على الأمانة) والمحب الغيور (العائد)، فشلا في الإنقاذ / البعث، وتساويا في العقم وكأن الفساد الذي استشرى لا حلّ له، وهذه رؤية كابوسية من قبل الراوي، الذي جاء محتجًا ومنتقدًا الأوضاع التي ظهرت على صورة الوطن، وإن كان هو عاتبا على من تسبب فيما حدث، فهو أيضًا معاتب، فقد تركها يوم أن احتاجته يبقى، وولىّ لها ظهره مع مَنْ ولىّ، وجاء معتقدًا أنها ستبقى كما تركها؟ فلا عاد هو كما كان، ولا بقيت هي كما تركها! فمعظم التخيلات التي رآها تؤكد أن لوثة أصابته، وهذا ما جناه على المستوى النفسي من الغربة.

يغلب على أسلوب القعيد الطابع التسجيلي، وقد كان هذا الطابع ملمحًا في رواياته السياسية (الحرب في بر مصر، ويحدث في مصر الآن، وغيرهما..) ويبدو أن مهنة الصحافة طغى أحد جوانبها على إبداعه، ومع هذه الملاحظة الفنية، إلا أن هذا لم يؤثر بأية حالة من الأحوال على السرد داخل العمل، فالكاتب وازن بين الطابع التسجيلي في السرد والطابع الغنائي الذي يشي باللوعة والحزن على ما جرى، فالكاتب مزج بين النبرة التهكمية في سرده لما آل الوطن إليه، وبين النبرة الحالمة في حديثه عن محبوبته، وكذلك حديثه عن النيل.

إذا كان الرمز ملمحًا بارزًا في هذه الرواية، فإنه تجلى أول ما تجلي على الشخصيات، فالشخصيات كما سبق أن ذكرنا كلها تحيل إلى مدلولات لها شفراتها في النص (العائد / المحبوبة)، حتى صديق الراوي الذي ظل رافضًا أن يرحل مع مَنْ رحل، وفضّل أن يعيش على الحافة، دون أنْ يتبدّل أو يتغيّر مثلما حدث مع كثيرين، زادوا من دخلهم بالعمل الإضافي الذي وفرته أعمال رجال الانفتاح. كل تصرفاته تشي بأنه رمز للضمير الذي غاب، فهو الوحيد الذي ذهب إلى منزل أهل صديقه بعد رحيله، ووصف قرار رحيله بالأنانية الفردية، ولا يمتد هجومه على المهاجرين فقط، وإنما يستمر في هجومه أيضًا عند عودتهم معلنًا أنهم 'عادوا لكي يشاركونا في رضاعة ما تبقى من لبن الأم التي أصبحت عجوزًا. ....عادوا ليحصدوا أرضًا لم يزرعوها، ويستولوا على ثمار زرع لم يرووه. ..'( ص35)، فصوت هذا الصديق هو صوت الضمير الذي يريد أن يخرج، ويأبى أن يسكت، فيصرخ ويندد بتصرفاتهم الأنانية، وتفضيل مصالحهم على مصالح الوطن، حتى عندما يسأله صديقه عن مصير محبوبته التي تركها، هو الوحيد الذي صارحه بالحقيقة، وأخبره أنها تزوجت من مهندس الري، ولم يبرر زواجها بل اتهمهما معًا بالخيانة. كلُّ فضل مصلحته. وما يؤكد ما ذهبنا إليه، فعندما يسأله صديقه العائد هل تزوج بمنْ أحبّ، قال له لقد نذر نفسه للوطن، فقد تزوج هموم الوطن.

لا يستغرق زمن الرواية الفعلي أكثر من يومين، وإن كان امتد الزمن عبر السرد إلى أزمنة موغلة منها الزمن الفرعوني (عروس النيل) أو أزمنة لاحقة مثل زمن خروج أبيه لشراء الإفطار عادته اليومية قديمًا قبل أن يسافر الابن، أو مثل زمن غرق المحبوبة، الذي يستعيد تفاصيله الضابط الشاهد على الحادثة. فزمن الحكاية يبدأ منذ لحظة عودته من المطار، وصولا برحلته للبحث عن حبيبته. ومع هذه الوحدة في الزمن إلا أن الزمن النفسي كان عميقًا، حيث ما رسخته الصور التسجيلية لما آل إليه الوطن، وما أصابه هو من وهن في غربة امتدت لأكثر من عشر سنين، تركا جراحًا غائرة لم تضمدها عودته لحضن الوطن، بل زادتها.

*****

تبقى للرواية روحها الأثرة بحب الوطن والوله بنيلها، الذي من فرط حب الراوي له جعله أنشودته العذبة وخلاصه الذي لم يأت بعد. ومع هذا فقد نحت الرواية منحى سياسيًا، لتعبر عن رؤية كاتبها وموقفه الاحتجاجي لما حاق بالوطن من متغيرات، إلا أن كل هذا لم يشفع لراويه في ألا يدان مثلما أدين كل من هاجر على لسان الراوي مرة وصديقه مرات عدة. فالكاتب رغم الاحتجاج المعلن بصيغ بدت مخففة عبر تهكماته لما حدث، وانتهاء بجنونه ورفضه ألا يسحب بلاغه مع خطورة ما ينتج عن البلاغ الكاذب كما وضح له الضابط إشفاقًا على حالته، إلا أنه كغيره شخّص الداء دون أن يُقدّم الدواء العليل، فزمن ماذا نحن فاعلون؟! ولَّى منذ زمنٍ، وجاء الدور إلى أين ذاهبون. ..؟ أخشى ما أخشاه أن نقف على الشط منتظرين المُخلّص في زمن أضحت فيه المعجزات من المستحيلات!!

ناقد أدبي وباحث أكاديمي