Wednesday 31st of December 2025
 

عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 

مواقع التواصل الاجتماعي

 
 
  • التاريخ
    13-Dec-2006

ياسمين غاتا تروي شغفها بالخط العربي

دار الحياة -

«ليل الخطاطين» هي رواية صراع بين السماوي والدنيوي في فن معين، ارتبط بحقبة امبراطورية او ملكية، وأتى أوان «تهديمه» بعد هدمها. هذه الرواية التي تنقل سيرة جدة المؤلفة، ياسمين غاتا، ونقلها فن الخط، من حيز المقدس الى حيز المعاصرة، صدرت بالفرنسية، قبل ترجمتها الى العربية. (دار النهار، بيروت٢٠٠٦).

من ملاحظة معاني الخط في الفن الإسلامي والأرابسك، نعرف انهما رديفا فن الأيقونة عند المسيحيين. «التزاوج التام بين الكلمة والمعصم يؤكد وحدانية الله»، كما الأيقونة تحمل دلالات لاهوتية. وهذان النوعان من الفنون، هما تجريد الأشكال الحسية، او «تحويلها» من الشهواني الى الروحاني. فالأرابسك بتكراره واختزال أشكاله الى الشكل الهندسي يوحي بفكرة الله اللامتناهي، اما الخط، فوصفته المؤلفة بأن التماوج ضروري فيه، كما «الأرداف العريضة، أو الصدر العارم» عند المرأة.

ولكن هذا الفن هو «نقل همسات الله»، نُزع عنه الجانب الحسي وحُوِّل الى روحانية، سواء بتطاول بعض الأحرف، أو بالروحية التي يجب أن يكتب بها. وكان من مستلزماته، كما تصفها المؤلفة، ما يشابه مستلزمات رسم الأيقونة. من صوم وتعبد، الى انعزال وتكريس الحياة له. ولا عجب ان تصف الخطاطة رقت كونت، بطلة الرواية، عملها الفني، بأنه نوع يقارب اللذة الجسدية ويعوض عنها. بفضل الشعور بالامتلاء الذي يمنحه بعد الانتهاء منه، كما بفعل ميكانيزم الكتابة، أي حبس الأنفاس عند العمل الدقيق. أو استخدام كل ما في رئاتهم من هواء، وفي ريشهم من حبر.

ورقت نفسها استعاضت بفنها عن خيبة زواجين، كانا كما نرى، نوعاً هجيناً سيئاً من الأخذ عن الغرب والتأثر به، مع الحفاظ على تقليدية تافهة في أمور عدة، أوصلت أولهما الى مادية جلفة، وثانيهما الى تهتك وتحرر من كل مبادئ. وحدها رقت بسمو احساسها، كما ابنها نور، انتجا مزاوجة ناجحة، بين تقليد ومعاصرة، هي بإخراج هذا الفن المقدس الى حيز الدنيوي، مع الحفاظ على رقيه. وهو بالجمع بين دينين وان قسراً، لم يمزقه صراع افرادهما، لأنه تقبلهما بعقلانية. وجمع بين حضارتين، شرقية وغربية، بالتأثر بأجمل ما فيهما. مقابل هجانة شكلية كانت هناك أصالتهما منفتحة على الجديد، آخذة منه بالمقدار اللازم.

رقت كونت، هي شخصية خطاطة، امرأة، دخلت مجال الرجال. وان سبقتها نساء، ولكن قليلات عبر التاريخ. وفنانة، فهمت ان سطوة القواعد المتوارثة، قد توقع هذا الفن في المحدودية والجفاف، ان استمرت في العصر الحديث من دون الظروف القديمة التي أنتجته. تماماً كسطوة سُنن ربطت بالدين وقد تؤذيه. عملت على «هدم» التقليد، من دون هتكه تماماً، تأثرت ببيئتها، بالتغييرات، بوقائع حياتها، لتترك يدها تعمل وتقودها الى التغيير. أنقذت رقت برهافتها، وفهمها هذا الفن عميقاً وإحساسها بماهيته، الخط من السقوط في التقنية والتحول الى مجرد كتابة شعارات وطنية وسياسية، مع أفول الامبراطورية.

جعلته معاصراً، وان نزعت عنه خلفيته الدينية، وتركته عملاً فنياً راقياً، درءاً عن تحوله الى ما يشبه خطوط المطابع. ولكن عملية هدم المقدس ونقله الى الدنيوي، أشعرتها بالمعصية، فعملت المؤلفة على الإيحاء بأن كل مرحلة «هدم» كان يرافقها مصاب ما يقع للخطاطة. وكأننا في إحدى روايات ستندال حيث المرأة المتزوجة، تحس مرض الابن عقاباً من الله، لأنها أغرمت بغير زوجها. هنا رقت أغرمت بفنها، استعاضة عن الزوجين، كما حرمانها أحد ولديها.

أهمية الكتاب، ليست في السيرة الذاتية التي يحكيها، وان قصدتها المؤلفة تكريماً لجدتها، بل في ملاحقة تطور الفنان، وانعكاس حياته على فنه كما محيطه.

وتصويره دقائق الإبداع والعمل في الخط، التي يمكن تطبيقها على اي فن آخر. في إحدى المراحل، يصيب رقت ما يصيب الرسامين عادة، او حتى الموسيقيين، من محاولة عكس المسار والعودة الى التقليد، ولكنهم لا يلبثون ان يفهموا لا جدوى الأمر، مع تطور الزمن. لحظات من الشك، في صوابية التغيير، تصيب أي فنان قبل ان يندفع مجدداً في إكمال المسيرة. شخصية سليم، استاذ رقت، تشابه ببعض منها شخصية الراهب الايطالي، فرا انجليكو الذي قيل ان الزهور تناثرت على قبره من السماء، بعد موته. وكان منصرفاً الى الرسم الديني. أما رقت عندما جرحت يدها، في لحظة أسى، ولونت ريشتها وورقتها بالدم، فشابهت رسامي الأيقونات الذين قيل انهم كانوا يجرحون اليد، او بعضهم، لوضع الأحمر في أيقونتهم.

دلالات جميلة حمَّلتها المؤلفة روايتها، بلغتها الجميلة، حتى بعد الترجمة. رهافة وايحاء، وعمقُ وصف ومعانٍ، وإيصال لبّ العمل الفني. ولفتٌ الى ما هو حسي، يتحول روحانياً، كما ذوبان الدراويش بالحب الإلهي، في دورانهم، على رغم ان الرقص مبدؤه المتعة واللهو في الحضارة الإسلامية. والخط عملية تحويل المحسوس الى روحاني، لأن الله يقود يد الخطاط. نص جميل جداً، لينقل مفهوم الفن الإسلامي بالمستوى ذاته الذي نقل به سيرة الجدة.