Thursday 2nd of May 2024
 

عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 

مواقع التواصل الاجتماعي

 
 
  • التاريخ
    22-May-2008

حسين درويش في مجموعته «شامة ليل» ... الشاعر العاشق يقترح مفهوماً عاطفياً للكتابة

القدس العربي -

يحرص الشاعر السوري حسين درويش في مجموعته الجديدة «شامة ليل» (دار رياض الريس، 2008) على ربط الشعر بمصدره القلبي المتصل بالعاطفة والشغف وبساطة العبارة وجلائها أكثر من اتصاله بنظريات الحداثة وتعقيداتها التركيبية والذهنية. وهو تبعاً لذلك يتخفف ما استطاع من أثقال المعرفة النظرية وأعباء الفكر وتراكماته متحسساً مواطئ أنامله برهافة المحب العاشق الذي لا يخجل من البوح بمكنونات صدره ولا يتردد في تحويل الكتابة الى نداء عقيم في برية المرأة المتوارية. وقد لا يكون ذانك الوضوح والتلقائية في مجموعة درويش ناجمين عن الرغبة وحدها أو عن اقتراح وحيد ونهائي لمفهوم الكتابة بل ربما تأتيّا من دون قصد من الموضوع نفسه حيث الخطاب الشعري يتمحور حول المرأة المعشوقة دون سواها ولا يتعداها سوى في القليل من المقطوعات.

تضم مجموعة «شامة ليل» ست عشرة قصيدة هي أقرب الى المقطوعات أو المشاهد منها الى القصائد الطويلة. لا بل إننا نستطيع بقليل من الاجتهاد ان نستبدل عناوين القصائد بالأرقام أو الإشارات لنحصل على قصيدة طويلة واحدة في حب امرأة. يكفي أن نستعرض بعض العناوين المختارة من مثل «ياسمينها» و «تمارين حارس وحدتها» و «أبوابها» و «شامتها» و «عطرها» لنقف على القاسم المشترك بين هذه العناوين ومغزى تلك الضمائر المتكررة والمتشابهة التي وإن تجنبت التسمية كما فعل عمر بن أبي ربيعة مع حبيبته «نعم»، فهي تحاول أن تسدد تنهيداتها المشوبة بالحسرة نحو المصدر نفسه.

على أن وضع الضمائر في صيغة الغائب يضع الشعر في خانة الابتهال والترجيع الوجداني ويكسبه نوعاً من النبرة الرثائية الدالة على فقدان المرأة المعنية أكثر من الدلالة على حضورها وتحققها. وفي أحسن الحالات يصبح للمرأة، هنا وجود ملتبس وموزع بين الحضور والغياب تماماً كما هي الحال مع معظم نساء الشعراء. ويمكن عبارة «الأبواب المواربة» التي استخدمها الشاعر في إحدى قصائده أن تدل بدقة على علاقته بمن يحب حيث المرأة منذ زمن امرئ القيس «تصد وتبدي» لا عن وجودها المادي فحسب، بل عن وجودها الروحي والعاطفي في الآن ذاته.

وقد تكون قصيدة «أبوابها» إحدى أجمل قصائد المجموعة، ليس فقط بسبب الدلالات السابقة التي ذكرت، بل بسبب نضارة صورها وقدرتها على ربط الحسي بإحالات تخييلية ونفسية متعددة: «الأبواب التي أيقظها الحنين/ الدرج الغامض كسطر صيني في كتاب العرّافات/ الضوء الواهن كشجرة سروٍ نسيتها الريح/ قرب النافذة/ حيث كتاب ناحل قرب أريكتها/ حيث معطف الصوف/ صوف الصباح/ كلما ارتعش كتفاها على مقعد الحديقة».

لا ينجح ضمير المخاطب المتكرر في قصائد ومقطوعات مماثلة في الإيحاء بحضور المرأة المباشر أو في التخفيف من أسى الشاعر الذي ينضح من وراء السطور. لا بل انه يبدو بمثابة تنويع على الغياب أو محاولة استدعاء متعذر التحقق للمرأة المتلفعة بوجودها السرابي. وإذ نتأمل في عبارات من مثل «لقد تركت نجومي خلف ستائرك» أو «لقد لهثت طويلاً تحت شرفاتك» أو «كأني ما جاورت سحابة لتمطر في صحرائك»، الى نهاية هذه السلسلة من الصياغات المتماثلة، لأدركنا أن الخطاب المباشر لا يخفف من الهوة القائمة بين طرفي الحب بقدر ما يظهر شساعتها ويكشف كم أن زوالها صعب ومتعذر.

ولعل الدلالة الأبلغ على استواء الصيغتين في التواري والاحتجاب تتمثل في السطرين الأولين من القصيدة الأولى في المجموعة، التي تحمل عنوان «ياسمينها»، حيث تبدأ القصيدة على الشكل الآتي: «ياسمينها/ ياسمينك مرَّ بالباب». فالانتقال المباغت وغير الممهد له بين الغائب والمخاطب لا يقلل من وطأة الغياب بل يعمقه ويضاعف الشعور به.

الحيلة الثانية التي يلجأ الشاعر إليها للإيهام بحضور امرأته المحسوس تتمثل في تجزئة هذا الحضور والتركيز على بعض مظاهره وتفاصيله كأن يتحدث على سبيل المثل عن الشامة التي تزين الوجه بدلاً من الوجه نفسه، أو عن الوجه بدلاً من الشخص ذاته. وهو لا يفعل ذلك من زاوية ما تمكن تسميته المجاز المرسل في علم البلاغة العربية بل من زاوية التخفيف من «شبحية» الحضور الأنثوي وإكسابه طابع الملموسية والتجسد.\r

إلا أن السياق نفسه سرعان ما يفضح حيلة الشاعر، كما يفضح شعوره المرير بالخسارة، كأن تبدو الشامة المعنية وكأنها تلمع من خلف جبال الخسارات، كما أنها تبدو عبر جناسها الناقص مع الشام وجهاً من وجوه الوطن الغائب أو المتعذر: «شامة لم تعبرها شمسٌ ولم يتذكرها أحد/ بقعة عنبر في حقل قمح/ قمح مائل كأغنية طوتها الريح خلف الباب/ سيذكرها مقبِّلوها/ كما يتذكرون حصص الصباح في مدرسة بعيدة/ حيث معلِّمة ممتلئة/ ومقعدٌ عبره عشاق قبلي».

والأمر نفسه يتكرر عبر الحديث عن المنديل والعطر والرسائل وحبال الغسيل وملاقط الشرفات. ولعل تلك الإشارات الحسية الصغيرة هي التي تساهم الى حد بعيد في منع قصيدة حسين درويش من الجنوح أحياناً نحو المهارة التأليفية والتركيب اللغوي وتحقن قصيدته مرة أخرى بأمصال الحرارة والدفء والصدق التعبيري.

يبدو المكان الغائب في مجموعة «شامة ليل» الوجه الآخر للمرأة الغائبة. فثمة دائماً ما يحيل الى الوطن ومسقط الرأس وسلالم الحياة الأولى ومراتع الطفولة الغاربة. وثمة استدعاء مشوب بالحزن لذلك الذي كانه الشاعر قبل عقود وقبل أن تعصف بأقدامه رياح المنافي.

وهو إذ يتحدث عن ذلك الطفل في القصيدة الأخيرة «عينان» يبدو وكأنه يستسلم من دون قصد لغنائية رومنطيقية الملامح وصولاً الى نوع من الإيقاع المسجع وغير المألوف في قصيدة النثر الحديثة، كما في قوله: «الطرقات التي حفظت خطاي/ لكأني شخص سواي»، أو قوله «من صفصاف لا ينام» ومن ثم قوله «لكأنهما جنة وغمام»، حتى لو كان القولان مفصولين بسطور ثلاثة.

وإذا كنت أميل الى الترجيح بأن التسجيع في هاتين الحالتين لم يكن مقصوداً بل قاد الشاعر إليهما توهج العاطفة وقوة الحنين، فإن ما هو غير ضروري في رأيي هو البيت الختامي في القصيدة حيث يعلن الشاعر مخاطباً حبيبته «عيناك وطن» بما يجعل البيت أقرب الى الخلاصة التقريرية التي لا مسوغ لها، فضلاً عن كونها قد استهلكت سابقاً في قصائد عربية سابقة. لكن هذه الملاحظات لا تقلل أبداً من قيمة المجموعة ومن ثراء الكثير من صورها النضرة والمباغتة أو من مناخاتها المفعمة بالحرارة والصدق والمتمثلة في شكل جلي في قصيدة «سأم» ذات النبرة الرثائية المترعة بالصور والتداعيات والظلال: «لم ينته بكاء الجنود خلف متاريسهم/ زرعوا راية بيضاء بلون أسنان القرى النائية/ بتلال الثلج الناعمة قرب رسائل النساء/ قرب الحرير كفضلات الشوارع/ لقد سئمنا الحرب يا أمي/ ولم نسأم ثيابنا المغطسة بالحبر/ وسئمنا نبالة الحرية/ ونحن نركلها بالهتافات...».