Friday 26th of April 2024
 

عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 

مواقع التواصل الاجتماعي

 
 
  • التاريخ
    23-Apr-2010

قراءة لكتاب«ماجلان قاهر البحار»لمؤلفه لستيفان زفايج

الدستور -

المغامرة شفرة الاكتشاف.

تندرج فكرة الرحلة ـ والانتقال من فضاءْ مُكتشَف إلى آخر مبهم ـ في حيًّز المغامرةً. ويغدو الرحالةُ مخلوقاً ارتدى معطف الجرأة واعتمر قلنسوة العزيمة ، وراح يضرب بصولجان المُخاطرة على حجرً العائق ليفتَّته مُمهًّداً طرقَ بلوغ الهدف بناءً على عزيمة إدراك المجهول ، وتحقيق حيازته وامتلاكه وتسخيره لصالحه. ورحلةُ المغامرةً التي نقصدُ هي ليست الانتقالَ من مدينةْ لمدينةْ عبرَ أريافْ وبرارْ سبق أن مرَّ بها الكثيرون وحفًظت أوصافُها سواء في الذاكرات أو سُكبت على الورق ، بل رحلةُ اختراقً الأماكن التي لم تمتصَّها عين ولا وطئتها قدم. بمعنى آخر ، هي رحلة جغرافيا لا تاريخ أو اجتماع.

لقد شكّلت الجغرافية مثاراً يناهض مخيلة البشري شأنها شأن التماهيات الروحية والميتافيزيقة طوال وجود البشرية على البسيطة. لكن حمّى الفضول للاكتشاف وتراكم الأسئلة التي تقول ماذا وراء ذلكَ الجبل؟ أو ماذا يوجد خلف هذا البحر؟ أو لماذا لا نعبر ذلكم النهر لنرى ما وراء تلك الغابة؟ ولماذا لا نجتاز تلكم الوديان لنتعرف على ما يجري بعدها؟ كل ذلك وغيره كان مبعث تساؤلات جغرافيّة لا تنقطع بلغت شدّتها وأوجَها لدى إنسان القرن السادس عشر عندما تراكمت لديه خرائط غير مكتمًلة لعوالمَ مجهولةْ حفّزت فيه رغبة أن لا يبقى يحار بالأسئلة دون أن يتحرك لفك ألغازها وحصوله على أجوبة شافية عنها: واقعية وموضوعية. وهذا ما حصل لفرناو دي ماجلان: البحّار الذي خاض الأهوال ، واجتاز الأنهر ، واخترق المضايق ، ونزل عند شواطىء غريبة ، والتقى أناساً لا يعرفهم ، لهم أوصافّ يجهل رؤيتها قبلاً.

للحق نقول إن هذا الرجل القصير القامة "الصامت الهادي الغامض" ، الذي اسمه ماجلان ، دخل حقل الرواية عبر سارد قدمّه بأسلوب السرد السيَّري. ذلك السارد روائي اسمه ستيفان زفايج ، وهو نمساوي ولد في الثامن والعشرين من شهر أكتوبر 1881 في العاصمة فيينا. لكنه غادرها إلى لندن مضطراً بعدما تحطمت آماله في بناء وحدة أوروبية ، تماماً كما هاجر ماجلان من موطنه البرتغال إلى إسبانيا بعدما وجد أن آماله في اكتشاف العالم تتحطم على صخرة لامبالاة ملكه "مانويلو".. في لندن صرف زفايج أعواماً ستة هاجر بعدها إلى البرازيل ليموت هناك منتحراً بعيداً عن الوطن ، ومن دون أن يشهد انهيار النازية التي كان يبغضها بشدة ، تماماّ كما قُتل ماجلان بعيداً عن موطنه البرتغال من دون أن يحقق حلمه بعودته منتصراً.

بين ماجلان الحلم وزفايج التجسيد

يأتي الاستهلال زاخراً بمعرفة زفايج بواقع حال الحياة الأوروبية في القرن السادس عشر ، يقابلها طبيعة عيش أولئك القاطنين أصقاعاً في الشرق بمدنه وغاباته ، بسهوله وموانيه ، بتعامله وتواصله. يأتي الاستهلال فاتحاً نوافذ للمعرفة عمّا كان يريده الأوربيون وما يساورهم ، وما لدى الشرقيين (هنوداً وعرباً) من منتجات صارت مثار اهتمام ورغبة حصول. فالبضاعة من أجل أن تصل إلى هدفها الأوروبي كان عليها أن تقطع فيافي وتعبر بحوراً: تجتاز سهولاً وتمر بوديان: تنسلخ من زوابع وتنجو من أعاصير. ومع معضلة الجغرافية ، كانت تدخلات الإنسان بهيئات متفاوتة ومظاهر متباينة: ضرائب ، قراصنة ، خدع ، دهاءات ، استحواذات ، لصوص الصحراء ، معاملات غير متكافئة ، مقايضات مشوبة باستغلال يتم ابتداءً من منشئها الأول من جزر ملوك في الهند الشرقية مروراً بملقة ، ومضيق هرمز في الخليج العربي أو ميناء عدن على البحر الأحمر ، وصولاً إلى بيروت أو طرابزون (طرابلس) ، مارة بالبصرة وبغداد ودمشق ، أو الوصول إلى القاهرة مارةً بميناء جدّة.

والفصل الاستهلالي لا يكتفي بسياق طرح التاريخ كتمهيد معرفي وتسليط الضوء على حاجة أوروبا إلى التوابل ، بل يتجاوز إلى مبررات يتلمسها موضوعيةً في نظر الحاكمين المتنفذين آنذاك حيث المسلمون يحتلون طرق مرور التوابل ويقطعون على الأوروبيين صلة الوصل مع الشرق لتصريف بضاعتهم والإتيان ببضاعة لا توجد في بلدانهم. فتوالت الحملات الصليبية: ظاهرها الدافع الديني ، وخافيها الوصول السهل والاستحواذ على منابت طبيعية بهيئة كنوز لا حد لها. وحين فشلت الحملات واستمر واقع قبض المسلمين والعرب على الطرق المهمة "بات لزاماً على الغرب إيجاد طريق آخر لتجارته يكون حراً مستقلاً" ، وهذا ما دفع "كولومبوس إلى الغرب ، وبرتولوميو وفاسكو دي جاما إلى الجنوب ، وكابو إلى الشمال نحو أرض لابرادور في سبيل استكشافات مسالك بحرية".

ويوم يُشرع في المغامرة كمخطًّطْ لا بد لها من مغامرْ مُخطًّط ، ولا بدَّ للاثنين من محفزات مادية ومعنوية كي يتحول الحلم حقيقة ، والخيال واقعاً ، والمفردات التي تأججت تنتظر من يسكبها على الورق ليظهر إلى الوجود كتابّ يمزج بين التاريخ بأحداثه وشخوصه ، وبين الأدب بأساليبه وتنميقاته وتبعيث صوره المحفزة على القراءة بلا جزع ، ودون ملل.

الرحلة.. المغامرة

كان ماجلان البحّار قد تعهد لملك إسبانيا شارلكان بأنه سيصل ، ورفيقاً له من الجغرافيين الأفذاذ اسمه روي فاليرو ، إلى جزر التوابل بأقرب مسافة ممكنة "عن طريق يصل بين البريغال وجزر التوابل ، من الغرب لا من الشرق. فلا يطوفان حول أفريقيا بل يدوران حول أمريكا. وقد كانت الخرائط المتداولة ترسم أمريكا الجنوبية متصلة بالقطب الجنوبي. ولم يكن أحد يفكر في إمكان اجتياز المحيط الأطلنطي والانتقال منه إلى المحيط الهادئ في سفينة واحدة. أما ماجلان فيعتقد أن هذا ممكن ، وذلك هو السر الذي يكتمه." تم الاتفاق بين ملك إسبانيا بعقد مبرم وقعه تاج المملكة الإسبانية من جهة ، ومن الجهة الأخرى ماجلان وروي فاليرو في 22 آذار عام ,1518

ولكن هناك دائماً مَن لا يرضيه تغييرُ الحال ، ولا يسُرُّه تجاوزَ المألوف. والمستقبل لديه نذيرُ تطيُّرْ ، ومدعاةُ خوفْ ، وتنامي رعبْ ، واستدعاءُ خشية.. هناك دائماً مَن وفي رحلة للأمل والتمنيات الكبرى ، واجهت ماجلان عقبات مختلفة ، ومرَّ بمواقف مهولة ، لكنه استطاع ، بحنكته وقيادته وخبرته البحرية وتعامله طويلاً مع البحارة ، السيطرة على المواقف وتجييرها لصالح إنجاح المهمّة. فواجه عصيان عدد من بحارته ، بخاصة مساعده جوان كرتاجيا ، الذي لم يتقبل أن يبقى يتلقى الأوامر من برتغالي وهو الإسباني الذي تعود لبلده السفن وما فيها من عدد وتموين ، مثلما صارع الطبيعة التي لم ترحمه طوال زمن إبحاره: فمن رياح إلى صقيع ، إلى وحشة شواطئ تخلو من البشر ، إلى قدر لا يعرف أين يرسيه ، إلى تساقط عدد كبير من بحارته موتى بفعل الإنهاك والرحلة الطويلة وقلة الغذاء: فالـ (265) بحاراً الذين رافقوه من مرفأ إشبيلية لم يبق منهم ، يوم وصولهم إلى أرض الوطن في مرفأ سان لوكار دي براميدا سوى 18 ، ولم يكن ماجلان بينهم: فقد قتل في معركة عند جزيرة اسمها ماكتان في 27 نيسان عام ,1521

المكان في حركية الاكتشاف

يبقى المكان رمزاً هلامياً له أبجديته في المخيلة ، تلك التي كثيراً ما فشلت في تحقيق شكله ومطابقة أوصافه الظاهرة التي رسمها الخيال. ويوم نكتشف المكان على حقيقته ، وتضع الباصرة بصماتها على أديم تشكله ، تتفكك آجرات الخيال ويحل محلها مدلول الواقع بكل تفاصيله.

المكان غير المكتشف كينونة مضببة مهما جهدت هذه المخيلة في رسمه وتحييد معالمه ، وجزئياته تبقى قاصرة عن إدراكه بمواصفاته الخارجية التي يتمتع بها وبالإبعاد التي تكيننه.

لقد قدّم ستيفان زفايج في كتابه هذا ماجلان إنساناً مثارَ الإعجاب والعرفان لما أبداه للإنسانية ، ورأى فيه قائداً جغرافياً كان "في أشد المحن وطأةً أكثرَ الجميع ثباتاً وحزماً ، فاحتمل الجوع بصبرْ يفوق صبر الآخرين ، ولم يكن على وجه الأرض إنسان أوسع منه خبرة في علم الخرائط وفن الملاحة." وقُدًّرَ له "أن يحمل عبء مشروع عظيم ، دون أن ينعم بنجاح المشروع. فالأقدار ادخرت هذا الرجل للعمل فقط" ، .. جعلته يكتشف مضيقاً فتح من خلاله الجغرافية ووظَّفها للإنسانية كي تختزل المسافات وصولاً إلى الشرق بأقصر خط سفر ، وأيسر رحلة ، بعد أن كان الوصول إلى الشرق ، أو بعكسه ، رحلة شقاء وأخطار مضمرة ومنفتحة على فضاء لا يُحد من المفاجآت.

ومثلما اختزل فرناو دي ماجلان المسافات ، اختصر ستيفان زفايج درب بحث القارىء فقدّم له من خلال كتاب "ماجلان قاهر البحار" سيلاً من معرفة ، وصوَّر أحداثاً متتالية صاحبت عرض مشاعر ، وإفشاء تهّجسات أعطت للمتلقي خلاصة جهود مضنية لمكتشفي جغرافية ، ومغيّري تاريخ.

النسخة العربية للكتاب كانت بترجمة حبيب جاماتي ، وصدرت عام 2008 عن دار المدى للثقافة والنشر من ضمن السلسلة ا وحشة الرابعة

التاريخ : 23-04-2010