Sunday 12th of May 2024
 

عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 

مواقع التواصل الاجتماعي

 
 
  • التاريخ
    14-Apr-2008

سقطت تحت الترام وبترت قدمي فتحولت من لاعب كرة إلي كاتب!

القدس العربي - القاضي رفقي بدوي بعد مجموعته الجديدة بياع الحلوين

القاهرة :- يعتبر القاص رفقي بدوي واحدا من كتاب جيل السبعينيات المتفردين، ومنذ مجموعتيه القابض علي الجمر و صباح الحب الجميل وهو يقف في صفوف الفاعلين في المشهد الإبداعي في مصر، وإن ظلت إصداراته ونشاطه الإبداعي قليلا ويأتي علي استحياء كل عدة سنوات، فقد انشغل بالعمل العام حيث يشغل موقع عضو مجلس إدارة باتحاد الكتاب، ومنذ عدة أشهر أصدر بدوي مجموعة قصصية جديدة هي بياع الحلوين عن الهيئة العامة للكتاب، لكنه غادر فيها موقعه السابق المنحاز الي اللغة المركبة التي تمنح من التراث الصوفي، وبدت المجموعة أكثر انحيازا لما هو معاصر، بحسها الواقعي المباشر الذي يناقش العديد من الظواهر الاجتماعية التي طغت علي حياتنا في اللحظة الراهنة.

وفي هذا الحوار نناقش مع رفقي بدوي اسرار هذا التنقل وجذور رحلته الإبداعية التي بدأت مع نهاية الستينيات بقصة فريدة في موضوعها ومؤثرة في مردودها نشرها عام 1968 في مجلة البيان الكويتية.

يتحدث رفقي في هذا الحوار عن خلفية قصته مع الحب الأول الذي اصطدم بالحادث المسرف في إيلامه الذي تعرض له ونتج عنه بتر قدميه ولم يزل بعد في الرابعة عشرة من عمره، لا يتحدث رفقي ـ فحسب ـ عن تأثير هذا الحادث، بل يتحدث ايضا عن الاسباب التي حولته من كائن شقي وشيطاني الي كائن متأمل هوايته الوحيدة القراءة ثم الكتابة.

حول الهموم الذاتية والموضوعية يتحدث رفقي بدوي:

حدثني في البداية عن تجربتك الإبداعية في ارتباطها بتجربتك الحياتية؟

ارتبطت تجربتي الإبداعية بتجربتي الحياتية، حيث كنت طفلا أعيش طفولتي بقوة، وكنت أفرغ طاقتي في لعب الكرة، ففي سن الثالثة عشرة كنت اللاعب الأساسي بفريق كرة القدم بالمدرسة وأنا بالصف الأول الإعدادي، وكانت قدمي اليمني شديدة التصويب، وكأنها تمارس العزف بالكرة، أما رأسي فكان يؤلمني لدرجة انني كنت أحس أنه سينفجر من الداخل، لعدم مفارقته للحلم، حلم يقظة لا ينقطع إلا في فترات اللعب بالقدم، حلم بالنجومية أو الزعامة، كنت قادرا علي التأثير في تلاميذ الفصل كله، فإذا قررت عدم الدخول من باب المدرسة فلا يدخل تلميذ من تلاميذ الفصل إلي المدرسة، ونذهب للمكان الذي قررته، سينما، مقهي، حديقة، أي مكان، استرجع ذلك الآن ولا أعرف كيف كانت لدي القدرة علي فعل ذلك.

كنت أشعر داخليا بالظلم الاجتماعي، وكنت أتمني وأطمح الي تحقيق العدل الاجتماعي دون أن أعرف كيف، وكان مثالي في ذلك الوقت اللص الشهير محمود أمين سليمان الذي كان يسرق الأغنياء ويوزع ما يسرقه علي الفقراء.

وقبل أن أبلغ الرابعة عشرة، وفي 15 شباط (فبراير) 1964، سقطت تحت عجلات الترام، فبُترت قدماي اليمني واليسري، لكن رأسي حتي في لحظة الحادث نفسه كان يعمل ويحلم وكنت قادرا علي تحريك أصابع قدمي بإشارات عقلية ولما لم أعد طفلا جميلا رشيقا ولما أصبحت محمولا علي ساقين صناعيتين، لم تعد الكرة حلمي ولم يعد طريق محمود أمين سليمان طريقي، فصرت عاجزا عن تحقيق أجمل الأهداف وتطبيق العدل الاجتماعي بيدي.

لا شك أنه حادث مروع، وكيف تعايشت معه وكيف توجهت باهتماماتك فيما بعد؟

انطويت علي نفسي التي لم تعد تملك سوي الحلم، فأمكث بالساعات أمارس لعبة الأوامر العقلية، فأعطي الأمر لشبكة الجهاز الحركي بعقلي بتحريك أصابع القدم اليمني أو اليسري أن يضع الخنصر فوق البنصر، أن أقيم من جزئي المدفون علاقة بباقي الجسد الحي، الذي يحمل في أعلاه رأساً به عقل يُلح في السؤال والتفكير والحلم.

إن فترة الانتظار بعد الحادث كانت طويلة حتي يندمل البتر تماما وحتي استطيع أن ارتدي الاجهزة الصناعية، وأنا الذي كنت أعيش عمري في الشارع، فلم يعد أمامي سوي القراءة، القراءة، التي كنت أكرهها فانطويت علي حزني وذاتي والكتاب، فكنت ما أكاد أنتهي من قراءة كتاب حتي أبدأ في كتاب آخر، وعبر ثلاث سنوات قرأت ما يقرب من خمسمائة كتاب، فكانت القراءة امتدادا طبيعيا لحلم اليقظة الذي يتخللني.

لم تحدثني عن الحادث كمحفز للكتابة؟

كانت القراءة بعد الحادث هي المحفز الاول، فقرأت جميع أعمال ديستيوفسكي ترجمة الدكتور سامي الدروبي وتشيكوف وكزنتزاكس، وهرمان هيسه، وهمنغواي وهوغو، جان جاك روسو، وحياة فان غوخ ونجيب محفوظ وسعد مكاوي ويوسف إدريس وفتحي غانم ومحمود البدوي وغيرهم، ثم كان الحزن ثالث محفزات الكتابة، فلقد كان كثيفا، فكانت الكتابة، نقشت الحروف فتشكلت قصصا قصيرة بعد نكسة 1967، لقد قامت الكتابة بإعادة صياغتي بعد بتر قدمي وتحول الحلم من القدس للرأس للقصة، وكان من الطبيعي والمنطقي أن تكون الكتابة متحصنة وراء الذات، وملتصقة بالذات في البداية، وأن تكون معبرة عن هموم العجز والانكسار، هذا من ناحية، كما أن اروع الأعمال الإبداعية العالمية والمحلية أعمال ذاتية مثل مقامر ديستيوفسكي ودكتور زيفاغو لباسترناك والفراشة لهنري شارير وأشعار رامبو وهلدرلين وأيام طه حسين وغيرها.

وفي عام 1968 عندما كنت في الثانوية العامة، كنت أجلس في الشرفة للاستذكار وإذا بشقيقة جارتي تبادلني الإشارات وتهبط إلي الشارع لتترك لي رسالة وتنتظر أن أهبط للحصول عليها والإطلاع علي ما فيها وكنت في ذلك الوقت أجريت عدة جراحات مكان البتر فلم أستطع النزول، فنظرت إليّ بانكسار ومضت، لكنها لم تعلم الأسباب حتي الآن فكتبت أول قصة في حياتي عن هذه الواقعة ونشرت بالعام نفسه في مجلة البيان الكويتية.

كانت القصة في ذلك الوقت ـ وبهذا المعني ـ خروجا علي مفهوم الالتزام الذي روج له نقاد الستينيات لكنني لست عبد الرؤية أو الإيديولوجية، وظللتُ ـ طيلة تجربتي ـ أكتب ما أحبه وما أراه.

ومنذ متي بدأت مشوارك الحقيقي مع الكتابة؟

بداية التعلم الحقيقي كانت في أواخر الستينيات، كنا مجموعة من كتاب القصة والشعراء من سكان منطقة شبرا نذهب لصديقنا الشاعر البيلي عبدالحميد الذي يكبرنا بعقد من الزمان وينشر قصائده بمجلة الشعر، فكان يطلب منا أن نأتيه بديوان شعر من مكتبته، وكانت كل دواوينه مغلفة بغلاف سميك فلا نعرف عنوان الديوان أو اسم الشاعر، ويطالبنا بأن نفتح الديوان من المنتصف ونقرأ قصيدة، ثم يسألنا من الشاعر، فإذا لم نعرفه، يقول هذا ليس بشاعر فنأتي بديوان آخر ونفعل نفس ما فعلناه فإذا عرفنا الشاعر، يقول هذا هو الشاعر.

معني هذا أنه كان يريد أن يعلمنا أن امتلاك التميز والفرادة شيئان جوهريان بالنسبة للكتاب.

ومنذ متي شعرت أنت ككاتب بأنك امتلكت هذا التفرد؟

أهم محطة بالنسبة لي كانت مع مجموعة القابض علي الجمر ، لأنني شعرت معها أن كل محاولاتي الأولي لامتلاك اللغة قد آتت أُكلها، وكان التأصيل الحقيقي قد بدأ معي في مجموعة صباح الحب الجميل ، فاللغة عندي أشبه بشحنات روحية وامضة تقتحم قلب وشعور وإحساس المتلقي دفعة واحدة دون أن يكون لهذه اللغة صدع في لغة الآخرين، ولهذا كنت أحاول في مجموعة القابض علي الجمر أن أكتب بلغة علي درجة عالية من النفاذ والشفافية الفنية والاقتصاد اللغوي، بحيث لا يجد فيها القارئ جملة أو كلمة زائدة وكانت مرجعياتي في هذا السياق قراءاتي للقرآن الكريم والاستماع الجيد إليه، فهذا النص اللغوي المقدس يساعدنا في اكتشاف أهمية اللغة، لكن اللغة صادفت في نصف القرن الأخير بسبب الخلط بين السياسي والثقافي بحيث باتت اللغة حاملة لأكثر من معني بعد أن تم تفريغها من مضامينها بحيث يمكنها أن تعني الشيء ونقيضه في الوقت نفسه.

فالخطاب السائد يفرغ الكلمة من مصداقيتها في الواقع وبالتالي فقد القارئ يقينه بها لأن مردودها غير حقيقي وزائف، فكيف يمكن مثلا تفسير جملة من كلمتين مثل عصر الطهارة عندما يطلق علي العصر الذي نعيش فيه تحت ظل حكم كهذا، ما الذي يحدث للقارئ عندما توضع هذه الجملة في غير سياقها ويتم ضخها وخضها باستمرار في عصر السرقات الكبري والنهب المنظم والشركات العملاقة، وكلمات كثيرة جدا كالإرهاب الذي يديرونه في العجلة ليتساوي حق الدفاع ومقاومة المحتل وغيرها من كلمات كالعدالة والحرية والديمقراطية، الخطاب السياسي والإعلام العربي انتهك لغتنا ويروج أو يسوقها في الواقع بعكس مصادقاتها تماما.

وهنا تجب اليقظة لأن المخاطرة في أن تفقد اللغة المقدسة مصداقيتها فيتم انتهاكها لتفقد قدسيتها وبالتالي كان همي استنهاض الذات والتأكيد علي حضورها ثم الاهتمام باللغة، حيث لا يمكن استنهاض القيمة من مفردات الواقع، بل من الحفر في الذات في الداخل، حيث هي كامنة من آلاف السنين، الاهتمام باللغة الصافية بذاتها المحسوسة بيقينها، وكما يقول الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور في مسرحية مأساة الحلاج : هذا رجل طيب، يلقي لفظا لا أدري معناه، لكني أشعر به .

وأنا لا أقيم في كتاباتي أو معظمها عالماً من الأفكار، بل أقيم حالات تقرأها فتشعر وتحس، انني أغير وأنفي وأنمي المشاعر، تلك المشاعر التي في وعيها سيتغير كل شيء.

لكن الحس الصوفي الذي تضج به كتاباتك لا يتماشي بهذا الشكل الحاد مع الواقع؟

لديّ قناعة بأن الزمن الخالد هو الزمن الماضي الذي يطوي الحاضر والمستقبل كطي السجل ويحيله إلي خلود، ولأننا نعيش فــــي زمن متراكم بعضه فوق بعض، فالواقع الفني في الزمــــــن المتراكم فقير لأن قياس الزمن بالحوادث الواقعية فيه والتي استغرقتـه، أي حركة المتمكن في المكان، وحوادث الزمن الواقعي علي الرغم من بشاعتها وسرعتها الآن، إلا أنها مكرورة في البشاعة، واستقبالنا للبشاعة أخذ صفة الاعتياد واعتياد الحوادث في المكان لم يحرك الزمن إبداعيا بل جعله متراكما، ولانعدام حركتي أو ضعفها في التأثير بالتغيير في المكان كانت حركتي في الداخل، سفر جواني، ومكان المكان ذاتي، وهنا أنوه بأنه عندما كان الآخرون يبحثون في أصل الأسماء، من قال بالماء ومن قال بالهواء ومن قال بالتراب كهرقليطس وديمقريطس وطاليس قال سقراط إعرف نفسك فهو يبحث في الجوهر الإنساني وفي الذات الإنسانية الممتلئة بالأسرار.