الدستور -
مؤخرا ، حذرت هيئة تنظيم الاتصالات المواطنين من التجاوب مع مكالمات احتيالية ذات أرقام دولية مجهولة المصدر يتبين أنها تدعي العلم بأمور غيبية وتخليص الناس من مشاكلهم مقابل مبالغ مالية ترسل بالطرق المعتمدة دوليا.
جميل أن تبادر الهيئة إلى مثل هذا التحذير ، لكن الأجمل أن تحمي المواطنين من عمليات النصب اليومية التي تمارسها بعض شركات الاتصالات من خلال تلك المسابقات التي تستغفل الناس وتبتز أموالهم بطرق غير مشروعة ، فضلا عن عروض الطب والتنجيم المختلفة التي تقدمها بأثمان عالية للدقيقة أو الرسالة.
تعلم الهيئة تمام العلم أن ما يجري لا يعدو أن يكون لعبة قمار واضحة (الجزء الثاني استدراج ونصب) ، ليس الهدف منها هو منح المواطن فرصة الحصول على ربح ، أو اقتناء جهاز ما ، بل الحصول على المزيد من المال بطرق غير مشروعة ، لا سيما بعد أن ثبت أنها من الطرق الذكية لأكل أموال الناس بالباطل ، تضاف إلى الأرباح الضخمة التي تجنيها تلك الشركات بشكل طبيعي من خلال بيع خدماتها للناس وللشركات التي تبيع هذه الخدمة.
سيرد علينا بعضهم بالقول إن تلك الشركات لا تضرب أحدا على يديه من أجل المشاركة في مسابقاتها ، أو التجاوب مع عروضها ، وأن بوسع المواطن أن يحذف مباشرة الرسالة التي تأتيه ، مع العلم أن قدرا كبيرا من الإزعاج تنطوي عليه تلك الرسائل ، إذ يضطر المرء بين حين وآخر إلى متابعة الموبايل من أجل رسائل يظنها مهمة ، فيكتشف أنها من ذلك اللون ، والأسوأ أن شركات الاتصالات أو بعضها لا زالت ترفض طلب المشتركين حجب تلك الرسائل عنه ، محتجين بأن ذلك "سيستم" لا يمكن تغييره ، الأمر الذي يصعب تصديقه بالطبع ، لأن كثيرا من الخدمات تتوفر لمشتركين ولا تتوفر لآخرين.
إذا كان بالإمكان قبول الرد السالف الذكر ، والقائل إن أحدا لا يجبر صاحب الرقم على المشاركة في تلك المسابقات (تسمى زورا مسابقات) ، فهذا يعني تشريع بيوت الدعارة ، ومحلات بيع المخدرات ، وصالات القمار ، ومرة أخرى لأن أحدا لا يضرب المواطن على يديه حتى يلج تلك الأماكن ويتعامل مع "خدماتها" أو "منتجاتها".
من حق المواطن على حكومته أن تحميه من الوقوع في المشاكل ما دام ذلك ممكنا ، الأمر الذي ينطبق على الأمثلة المشار إليها ، ومن ضمنها قمار الموبايل الشائع ، أولا من أجل منع الإزعاج ، وثانيا لأن طريقة التسويق تنطوي على الكثير من الاستغفال والاستدراج ، فضلا عن أن شيوع الموبايل في البيوت ، وبين أيدي صغار السن (ليس بالضرورة أن يكون الموبايل لهم ، إذ قد يستعملون جهاز الأب أو الأم ، تماما كما يستعملون الجهاز الأرضي في مسابقات الفضائيات المشابهة) ، وهو ما يجعل منع تلك المسابقات أشبه بمنع بيع الدخان والخمور للأطفال دون سن البلوغ ، والذي تمنعه ، بل تجرّمه معظم الدول. ويبقى أن أحدا لا يمكنه ضمان أن ثمة جوائز بالفعل تمنح للمشاركين ، إذ لا تعلن الأسماء في الصحف أو سواها.
يحيلنا هذا الحديث إلى مسألة لا تتحمل الحكومات المسؤولية عنها (باستثناء مالكة الأقمار الصناعية) ، ويمكن القول إنها تدخل في عمليات النصب والاحتيال "الفضائي" ، أعني بيع الدواء والشفاء على الناس بطرق كاذبة ومخادعة ، لا سيما تلك التي تستخدم الدين أداة لها.
ثمة فضائيات تدعي علاج الناس عبر الهاتف المدفوع ، حتى أن أحدهم أعاد لامرأة بصرها عبر مكالمة هاتفية قرأ عليها من خلالها ، مع مطالبتها بأن تردد معه بعض الكلمات ، الأمر الذي يجعله متفوقا على سيدنا عيسى عليه السلام الذي أعاد البصر للكفيف بإذن الله بشكل مباشر ، فيما كان ذلك جزءًا من معجزاته الإلهية. وفي ذات المحطة يعالج ذات المشعوذ رجلا لا يستطيع المشي في دقائق عبر كلمات يرددها معه.
هذا على صعيد النصب المباشر ، أما الأقل وضوحا فهو الأسئلة التي تطرح في الفضائيات ، بما فيها الدينية عبر الرسائل الغالية "الثمن" والتي تتقاضى الفضائية جزءًا من قيمتها. وقد كان جيدا أن منعت مصر بعض تلك الفضائيات ، مع قناعتنا بأن ذلك كان جزءًا من سياق سياسي ، وأن أكثرها لن تلبث أن تعود بعد وقت لن يطول.
هنا تغدو القضية مسؤولية العلماء والمفكرين الذين ينبغي أن يرفضوا كل قصص الشعوذة من ألفها إلى يائها ، بما في ذلك العلاج بالقرآن الكريم الذي جاء شفاء للقلوب وليس الأمراض العضوية ، فضلا عن قصص تلبس الجن للإنس وسواها من قصص السحر والشعوذة التي لا تمت إلى الحقيقة بصلة (السحر في القرآن يعني التخييل وليس تغيير طبيعة الأشياء) لقوله تعالى "وسحروا أعين الناس" ، وقوله "يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى". والكلام في هذا الموضوع يستحق وقفات خاصة.
يبقى القول إن وعي الناس بحقيقة دينهم ، وحقيقة واقعهم هو وحده الكفيل بوقف هذه المهازل بشتى أنواعها ، والله أعلم.