Sunday 5th of May 2024
 

عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 

مواقع التواصل الاجتماعي

 
 
  • التاريخ
    24-Jan-2011

رباح الصغيّر.. رائد الكاريكاتير والنقد الأصيل

الرأي -

- الفنان والناقد رباح الصغير، شكل حالة فنية مميزة، تركت أثرها الواضح على مسيرة فن الكاريكاتير في الأردن والبلاد العربية، وكان بفضل ثقافته وتخصصه الأكاديمي، أحد أبرز مؤسسي النقد الفني، المبني على ركائز علمية ومنهجية واضحة، وهو شخصية ثقافية فنية عصامية، ومناضلاً وطنياً بآفاق قومية واعية، وقد مارس نضاله من خلال فنه، الذي كان قريباً من الناس ومعبراً عن همومهم ومشاكلهم، ويعد الصغيّر من البسطاء النبلاء، الذين كرسوا حياتهم لخدمة فنهم ووطنهم، ولم يسع إلى مال أو جاه، وإنما اعتصم بقلعته العصية، المكونة من الألوان والحروف، فلقد كان صحفيا بامتياز، عمل في الكتابة والتحرير والتصميم الفني، حتى أصبح مدرسة فنية في مجاله، وتسابقت للإفادة من خبراته وقدراته مؤسسات مختلفة، فقد كان معطاءً ولا يكل من العمل ولا يكرر نفسه، وهذا سر تميزه.

يعد رباح الصغيّر رائد فن الكاريكاتير، فلقد تفجرت موهبته منذ الصغر، وجاهد من أجلها في الزمن الصعب، ووسط ظروف قاسية، حيث تمسك بفنه وحلمه، وكشفت خطواته الأولى عن ثقة عميقة، بما يملك من إبداع مختلف، وهو الذي تميز في ما بعد بكونه فناناً شاملاً، تخصص برسم الكاريكاتير، والتصوير الفوتوغرافي، كما أنجز عدداً من اللوحات في الفن التشكيلي، وكان من القلة الذين أولوا الأطفال عناية خاصة، لإدراكه أن مستقبل الأمة وتطورها، مرهون بالأجيال الجديدة، لذا عمل مع هذه الفئة وغرس فيها قيم الجمال والذوق الرفيع، وساعد كثيراً من المواهب الشابة، لتأخذ مكانتها المستحقة في التدريب، ومهد لها فرص الوصول إلى الناس والإعلان عن نفسها.

ولد الفنان والمثقف رباح الصغير، في بلدة الفالوجة، وهي بلدة ناشطة تقع على مقربة من المجدل في فلسطين، حيث كان والده يعمل في هذه البلدة، وله فيها مصالح تجارية، وينتسب رباح إلى عشيرة عريقة وكبيرة من عشائر مدينة الخليل، حيث تكتب العائلة بـ ( الصغيّر ) وتلفظ ( الزغيّر )، وقد كانت ولادته في عام 1938، في بؤرة الفترة الساخنة، حيث كانت فلسطين تشهد أحداثاً متسارعة، بعد تكشف أنياب المؤامرة الصهيونية الغربية، فكان أن نشأ في رحم الثورة والاحتجاجات الفلسطينية، التي كانت في قبضة الانتداب البريطاني، وقد رافقت أحداث هذه المرحلة رباح طوال حياته، وأسهمت في تشكيل شخصيته الفنية والإنسانية. درس صفوفه الأولى في الفالوجة، لكن وقوع النكبة عام 1948، أجبرت عائلته للعودة إلى مدينة الخليل، وفي مدينة عشيرته، واصل رباح دراسته للمرحلة الابتدائية، حيث واصل بعدها دراسة المرحلة الثانوية في خليل الرحمن، لكنه قرر مغادرة مدينته، من أجل إكمال دراسته الثانوية المهنية، في مدرسة ( قلنديا ) الصناعية.

بعد حصوله على الثانوية العامة، توجه رباح للحياة العملية، وتمكن من الحصول على وظيفة ذات مكانة اجتماعية حينها، حيث عين عام 1956 مدرساً لمادة النشاط المهني، في مدرسة الأمير محمد في مدينة الخليل، وخلال هذه الفترة، كان رباح مدركاً لأهمية موهبته، وضرورة صقلها بالعلم والتدريب، ولأن الظروف حالت دون سفره، فقد قرر دراسة فن الكاريكاتير، عن طريق المراسلة في الجامعة الأهلية في القاهرة، وذلك خلال الفترة من 1957 إلى 1959، فكان من أوائل الفنانين الذي اختص في هذا الفن الصعب، وقد مكنته دراسته هذه من الاطلاع تاريخ الكاريكاتير، ومدارسه ومناهجه، فساعدته هذه المعارف في أن يكون من أبرز رواد هذا الفن في المنطقة.

جاءت فرصة سانحة لرباح الصغير، فسافر إلى مصر، حيث التحق بالكلية الإيطالية للفنون الجميلة، ليتلقى معارفه في هذه الكلية بشكل مباشر، وتمكن من التخرج في كلية الفنون في القاهرة عام 1964، حاصلاً شهادة الدبلوم في هندسة الديكور، مما أضاف إلى خبراته ومواهبه مجالاً جديداً، يصب في حبه للفنون، مقرراً أن لا يغادر هذا الفضاء الإبداعي، وقد عاد رباح إلى مدينته الخليل، ليواصل مسيرته العملية الناجحة، فقد قام بافتتاح استديو للتصوير مرفقاً بمختبر خاص بإنجاز مراحل التصوير الضوئي، وقد شهد عمله هذا ازدهاراً واضحاً، لكن طموحاته لم تقف عند هذا الحد، فهو لم يغادر مشروعه كفنان كاريكاتير، فعمل في رسم الكاريكاتير والتحرير الفني في جريدتي ( المنار ) و( الدفاع ) وذلك خلال الفترة الواقعة بين عامي 1965 و1967، وبدأ اسمه ينتشر بسرعة كبيرة، وقد تولى مسؤولية تحرير صفحة الفنون الجميلة في جريدة ( المنار ) الأردنية.

في أعقاب حرب حزيران 1967، واحتلال إسرائيل للضفة الغربية قطاع عزة، وقع الحدث وقوع الصاعقة على رباح الصغيّر، وهو الفنان الذي تعلق بالأرض والناس، فلم يحتمل أن يبقى صامتاً وهو الوطني والعروبي الأصيل، فقام بعدد من العمليات النضالية ضد قوات الاحتلال، وعمل على كتابة وتوزيع منشورات، تحرض على الإسرائيليين، وتدعو للمقاومة الشعبية الشاملة، ونتيجة لذلك تم إبعاده إلى الضفة الشرقية، حيث تم تعيينه مدرساً في قسم الصحافة في كلية عمان، حيث وظف في عمله هذا خبراته العلمية والعملية، وهو الذي خصص عموداً ثابتاً بعنوان ( تاريخ الكاريكاتير ) قدم فيه تنظير تأريخي لهذا الفن العريق، بالإضافة لعدد كبير من المقالات النقدية الفنية، التي استندت إلى المنهج العلمي السليم، مما جعل من كتاباته ذات مكانة مستحقة.

عمل الفنان والناقد رباح الصغير، في عدد من الصحف المحلية، وكذلك عمل مستشاراً فنياً، في مؤسسات رسمية، وعدد من الدوائر والنقابات والشركات المختلفة، منها عمله مستشاراً لدى وزارة السياحة والآثار الأردنية، وفي مجال العمل الصحفي، عمل في جريدة الرأي الأردنية حتى وفاته، رسّام كاريكاتير، ومستشاراً فنياً للجريدة، وقد تميز كرسام كاريكاتير باهتمامه بالقضايا الوطنية، وعنايته الجوانب الاجتماعية المعيشية، وعلاقتها بالنقد الاقتصادي والسياسي، واستخدم في رسومه رموزاً وطنية مستمدة، من المقدسات في القدس الشريف، واتسمت أعماله ببعدها عن الذهنية المغلقة، وبساطتها وسهولة فهمها، وتلقي رسائلها من الجمهور العريض بمختلف مستوياته.

عرف رباح الصغير بتعلقه بالأطفال، وحبه الشديد للعمل معهم، حيث خصص عددا كبيرا من أعماله الفنية لهم، وقد أخذه الحماس ليعمل على تأسيس مدرسة نموذجية للأطفال، ومكنته هذه المدرسة من وضع لمسته الفنية الخاصة على عدد كبير من جيل كامل، وقام بالتحرير الفني لعدد من المجلات، واستمر بالإشراف على ملاحق الأطفال الملونة في أكثر من صحيفة محلية، وعندما قامت وزارة الثقافة بتأسيس مجلة ( وسام ) المخصصة لأدب الطفل، اختير رباح كأحد محرري المجلة الفنيين، وتواصل اهتمامه بالأطفال بشكل لافت، فقد عمل على إنشاء مجلة خاصة للأطفال باسم مجلة ( سامر ) وهي مجلة شهرية متخصصة.

كان رباح الصغير حاضراً في المشهد الفني الأردني، من خلال مشاركته في عدد كبير من معارض الفن التشكيلي الجماعية، ولم تقتصر أعماله في فن الكاريكاتير على الصحافة المحلية، فقد نشر عددا كبيرا من رسوماته في الصحافة العربية المختلفة، مما أسهم في نشر اسمه كفنان شامل، في أرجاء الوطن العربي الكبير، فهو رسام كاريكاتير، وفنان تشكيلي، ومصور فوتوغرافي محترف، ومصمم فني مشهود له بالتميز والخبرة الواسعة، مما أهله لنيل عدد من الأوسمة والجوائز، منها جائزة الدولة التقديرية للفنون، التي تمنحها وزارة الثقافة الأردنية.

انتقل الفنان والناقد الكبير رباح الصغير إلى رحمته تعالى، في شهر شباط عام 1989، تاركاً خلفه إرثاً كبيراً من الأعمال الفنية، والنقد الفني الأصيل، الذي يبقى يؤكد على ريادته ومكانته الفنية والفكرية، فهو من خلال حياته وإبداعاته المتعدد يعد مدرسة فنية وحياتية يقتدى بها.